من أسرار القرآن
بقلم: د. زغلـول النجـار
(289) وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم( البقرة:127)
(289) وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ( البقرة:127)
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في خواتيم النصف الأول من سورة البقرة وهي سورة مدنية, وآياتها(286) بعد البسملة, وهي اطول سور القرآن الكريم علي الإطلاق. هذا وقد سبق لنا استعراض سورة البقرة ونزكر هنا علي ومضة الإعجاز التاريخي في الآية التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال.
من جوانب الإعجاز التاريخي في الآية الكريمة:
تؤكد هذه الآية الكريمة علي أن نبي الله إبراهيم وولده اسماعيل ـ عليهما السلام ـ هما اللذان رفعا القواعد من البيت الحرام القائم في مكة المكرمة. وقد ورد ذكر( إبراهيم) ـ عليه السلام ـ في القرآن الكريم إحدي وسبعين(71) مرة, وسميت باسمه إحدي سور هذا الكتاب العزيز, كما ورد اسم ابنه( إسماعيل) ـ عليه السلام ـ إثنتا عشرة(12) مرة.
وقد فصلت هذه الآيات قصة هذين النبيين الكريمين اللذين عاشا في اوائل الألفية الثانية قبل الميلاد تفصيلا غير مسبوق, ولو سلمنا بأن العرب كانوا يعرفون ـ هذه الحقيقة بواسطة الأخبار المتناقلة عبر الأجيال ـ فمن اين لنبينا الأمي ـ صلي الله عليه وسلم ـ هذه التفاصيل الدقيقة عن هذين النبيين الكريمين لو لم يكن موصولا بالوحي, ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض؟ ومن هنا فإن القصص القرآني كله يمثل جانبا من جوانب الإعجاز في كتاب الله نسميه باسم الاعجاز التاريخي.
وتبدأ قصة هذين النبيين الكريمين في سورة البقرة يقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ وإذ ابتلي إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين* وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلي وعهدنا إلي إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود* وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره الي عذاب النار وبئس المصير* وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم* ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم. ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين* إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين*
ووصي بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفي لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون* أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد الهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون* تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون* وقالوا كونوا هودا أو نصاري تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين* قولوا آمنا بالله وما أنزل الينا وما أنزل الي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسي وعيسي وما أوتي النبيون من ربهم لانفرق بين احد منهم ونحن له مسلمون* فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم* صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون* قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا اعمالنا ولكم اعمالكم ونحن له مخلصون* أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصاري قل أأنتم أعلم أم الله ومن اظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون* تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون
(البقرة:141,124)
وفي هذه الآيات عدد من المعجزات التاريخية والإنبائية نذكر منها ما يلي:
أولا: التأكيد علي أن الذي رفع القواعد من البيت الحرام هما النبيان الكريمان إبراهيم وولده إسماعيل ـ عليهما السلام ـ لأن الواضح من القرآن الكريم ومن السنة النبوية المشرفة أن الذي بني هذا البيت ابتداء هم الملائكة, الذين بنوه بأمر من الله ـ تعالي ـ في هذه البقعة المباركة التي حرمها الله ـ سبحانه وتعالي ـ يوم خلق السماوات والأرض وذلك استعدادا لخلق أبوينا آدم وحواء ـ عليهما السلام ـ ويقدر تاريخ وجودهما علي الأرض بحوالي أربعين الف سنة مضت, بينما يقدر عمر الكون بحوالي(13,7) بلايين سنة, ولذلك كان أول من طاف بالبيت الحرام هم الملائكة. وإذا كان إبراهيم ـ عليه السلام ـ قد عاش في اوائل الألفية الثانية قبل الميلاد فإنه يبقي بين آدم وإبراهيم ـ عليهما السلام ـ حوالي(36,000) سنة وفي هذه الفترة الطويلة تهدم البيت الحرام, ثم بعث الله ـ سبحانه وتعالي ـ ملائكته لتبين لعبده ونبيه إبراهيم مكان البيت ولذلك قال ـ وهو اصدق القائلين ـ: وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لاتشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود
( الحج:26)
وقال ـ تعالي ـ: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم
(البقرة:127)
ثانيا: الإنباء بأن الله ـ تعالي ـ قد استجاب دعوة عبده ونبيه إبراهيم ـ عليه السلام ـ بجعل مكة المكرمة بلدا آمنا وأن يرزق أهله من الثمرات( البقرة:126)
فقد قدر الله ـ سبحانه وتعالي ـ أن يجعل من مكة المكرمة بلدا آمنا كاملا في مختلف المجالات:
الفطرية, والاجتماعية, والاقتصادية, فقد حفظها الله بقدرته من كثير من الكوارث الطبيعية المحيطة بها, وساق اليها الرزق بعد أن عمرها, وجعل أفئدة من الناس تهوي إليها. حتي أصبحت اليوم حاضرة من أهم حاضرات العالم, إن لم تكن أهمها علي الإطلاق بالنسبة للمسلمين علي أقل تقدير. وأصبحت الأرزاق تساق إليها من مختلف بقاع الأرض علي مدار السنة دون انقطاع, ويجتمع فيها الملايين من البشر في الحج والعمرة فلا يقصر دونهم زاد من طعام, أو شراب, أو كساء, أو دواء أو وسائل مواصلات واتصال, استجابة لدعوة نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ وتشريفا لإقامة كل من نبي الله اسماعيل ـ عليه السلام ـ وخاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم ـ فيها, وتقديرا لمباركتها وتحريمها يوم خلق الله السماوات والأرض, وقد تحقق ذلك بالفعل.
ثالثا: الإخبار عن دعوة كل من النبيين إبراهيم وولده إسماعيل أن يجعل الله ـ سبحانه وتعالي ـ من ذريتهما أمة مسلمة( البقرة:128) وقد تحقق لهما ذلك في حياتهما, ومن بعدهما حتي اليوم وإلي أن يشاء الله ـ سبحانه وتعالي ـ.
وبقاء أمة الإسلام ممثلة بقرابة ربع مجموع سكان الأرض, واعتراف جميع اجهزة الاستخبارات في العالم بأن الإسلام هو أسرع الأديان انتشارا في عالم اليوم يمثل تحقيقا لهذه الدعوة النبوية المجابة.
رابعا: الإنباء باستجابة دعوة هذين النبيين الكريمين( سيدنا إبراهيم وولده سيدنا إسماعيل ـ عليهما السلام) ببعثة خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم ـ في مكة المكرمة, يحمل الكتاب والحكمة, ويزكي الناس بهما, وقد استجيبت دعوتهما( البقرة:129).
وفي ذلك تأكيد علي وحدة رسالة الأنبياء القائمة علي أساس من دين الله وهو الإسلام الذي لا يرتضي ربنا ـ تبارك وتعالي ـ من عباده دينا سواه.
خامسا: التأكيد علي وحدة رسالة السماء, وعلي الأخوة بين الأنبياء جميعا, وقد كان دينهم واحدا, هو الإسلام العظيم, الذي علمه ربنا ـ تبارك وتعالي ـ لأبينا آدم ـ عليه السلام ـ لحظة خلقه, ثم أنزله علي عدد كبير من أنبيائه ورسله, وأكمله وأتمه وحفظه في القرآن الكريم, وفي سنة خاتم المرسلين ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين ـ( البقرة:130 ـ133)
سادسا: التأكيد علي أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ كان مسلما ولم يكن يهوديا, ولا نصرانيا, وقد تطهر من الشرك بالله, ومن عبادة الأصنام والأوثان, وهكذا كان جميع رسل الله وأنبيائه(البقرة:135 ـ138).
وكانت قريش في جاهليتها تعتز بنسبتها إلي ابراهيم ـ عليه السلام ـ عن طريق ولده إسماعيل ـ عليه السلام ـ وتستمد من ذلك القوامة علي البيت الحرام وسلطانها علي العرب ثم يأتي خاتم الانبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم ـ ليؤكد أن الناس سواسية كأسنان المشط, وأنه لا فضل لعربي علي عجمي, ولا لأبيض علي اسود إلا بالتقوي, كما جاء ليؤكد أن ابراهيم ـ عليه السلام ـ وبنيه والصالحين من ذريته كانوا علي الإسلام القائم علي التوحيد الخالص لله ـ تعالي ـ, وأن هذا الدين الذي دان به جميع أنبياء الله ورسله ليس احتكارا لأحد من خلق الله علي اساس من العصبيات التي نهانا عنها الله ورسوله.
ولذلك استحق نبي الله ابراهيم ـ عليه السلام ـ أن يجعله الله ـ سبحانه وتعالي ـ إماما للناس, ولكن أغلب الناس إنحرفوا عن ملة إبراهيم حتي جاء الرسول الخاتم ـ صلي الله عليه وسلم ـ بملة إبراهيم( وهي الاسلام العظيم في تمامه وكماله) إستجابة لدعوة كل من نبي الله إبراهيم وولده إسماعيل ـ عليهما السلام ـ فاستحق الصالحون من أمة محمد ـ صلي الله عليه وسلم ـ هذا الميراث الديني الذي لا يرتضي ربنا ـ تبارك وتعالي ـ من عباده دينا سواه. ويؤكد ذلك أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ حين استمع إلي تشريف الله ـ تعالي ـ له بقوله العزيز( إني جاعلك للناس إماما) قال إبراهيم
ومن ذريتي) فجاء الرد الإلهي قاطعا حاسما
لاينال عهدي الظالمين).
سابعا: إثبات أن الله ـ سبحانه وتعالي ـ قد تعهد لخاتم أنبيائه ورسله ـ صلي الله عليه وسلم ـ بالنصر, وبأنه ـ تعالي ـ سوف يكفيه شر كل كافر ومشرك ومنافق وظالم, وقد تحقق له لذلك, كما تحقق لأمته من بعده, رغم كيد الكائدين, وتآمر المتأمرين من شياطين الإنس والجن( والله غالب علي أمره ولكن اكثر الناس لايعلمون)
هذا جانب واحد من قصة نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ في القرآن الكريم, والتي جاءت في عشرات الآيات من ست وعشرين سورة من سور هذا الكتاب العزيز, والآيات التي استشهدنا بها هنا تمثل وجها من أوجه الإعجاز التاريخي والإنبائي في كتاب الله, وذلك لأن ذكري إبراهيم ـ عليه السلام ـ كانت قد محيت من ذاكرة الناس في زمن البعثة المحمدية الشريفة بعد مرور قرابة ألفين وخمسمائة سنة بينهما, حيث يقدر أن نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ عاش في بدايات الألفية الثانية قبل الميلاد, وأن خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم ـ بعث في اوائل القرن السابع الميلادي(610 ـ632 م).
وإن كانت القصة قد ذكرت في بعض كتب الأولين في بضع اشارات ركيكة مفككة ـ إلا أن الفارق بين رواية القرآن الكريم وتلك الإشارات هو الفارق بين كلام الله المحيط بكل شيء, وكلام البشر الذي يتميز بالقصور, والنقص, والبعد عن الكمال, وبالخلط بين الوقائع والأماكن, والتواريخ للقصور المعروف في طبيعة الذاكرة الإنسانية.
ونص رواية القرآن الكريم لقصة أبي الأنبياء إبراهيم ـ عليه السلام ـ تشهد لهذا الكتاب العزيز بأنه لايمكن أن يكون صناعة بشرية, بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسوله, وحفظه بعهده الذي قطعه علي ذاته العلية في نفس لغة وحيه( اللغة العربية), وتعهد بهذا الحفظ تعهدا مطلقا حتي يبقي القرآن الكريم شاهدا علي الخلق أجمعين إلي يوم الدين بأنه كلام رب العالمين, وشاهدا للرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة, فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه أجمعين وعلي من تبع هداه ودعا بدعوته الي يوم الدين, وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.