325 وأذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا [مريم:54]
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في بدايات النصف الثاني من سورة مريم, وهي سورة مكية, وآياتها ثمان وتسعون(98) بعد البسملة, وقد سميت بهذا تكريما للسيدة البتول مريم بنت عمران ـ رضي الله عنها ـ التي أوردت السورة معجزة حملها بابنها عيسي من أم بلا أب, ووضعها إياه وليدا يتكلم وهو في المهد.
ويدور المحور الرئيس للسورة حول قضية العقيدة الإسلامية ـ شأنها في ذلك شأن كل السور المكية ـ مركزة علي توحيد الله ـ سبحانه وتعالي ـ وتنزيهه عن الشريك, وعن الشبيه, وعن المنازع, وعن الصاحبة والولد, وعن جميع صفات خلقه, وعن كل وصف لا يليق بجلاله.
هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة مريم وما جاء فيها من ركائز العقيدة والإشارات العلمية, ونركز هنا علي ومضة الإعجاز التاريخي في ذكر نبي الله ورسوله إسماعيل ـ عليه السلام ـ الذي ـ لم يدون المؤرخون شيئا عنه, ولم تذكر كتب الأولين إلا النزر اليسير من سيرته, والذي جاء مشوها ومحرفا.
من أوجه الإعجاز التاريخي والتربوي في النص القرآني الكريم
يقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ في محكم كتابه:
(واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا)[ مريم:54 ـ55].
والآيتان فيهما أمر من الله ـ تعالي ـ إلي خاتم أنبيائه ورسله ـ صلي الله عليه وسلم ـ أن يذكر للناس ما أنزل عليه من القرآن الكريم في سرد قصة رسول الله إسماعيل بن خليل الرحمن إبراهيم ـ عليهما السلام ـ الذي كان مثالا في صدق الوعد, وقد أثبت ذلك حين وعد أباه بالصبر علي ذبحه له وفاء بأمر الله ـ تعالي ـ لأبيه أن يذبحه, ووفي إسماعيل بوعده وفاء كاملا, ففداه الله الكريم بذبح عظيم, وأكرمه وشرفه بالنبوة والرسالة عندما بلغ سن النبوة.
وتذكر الآيتان الكريمتان من مناقب هذا الرسول الكريم أنه كان يأمر أهله بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة, حتي بلغ مقاما كريما من رضا ربه عليه: هذا وقد جاء ذكر عبدالله ورسوله إسماعيل بن إبراهيم ـ عليهما السلام ـ اثنتا عشرة(12) مرة.
ومن الدروس المستفادة من عرض القرآن الكريم لقصة نبي الله إسماعيل ما يلي:
1 ـ أن الإنسان إذا حرم شيئا من خير الدنيا دون تقصير من جانبه, فعليه بالدعاء الصادق الي الله ـ تعالي ـ فقد قارب نبي الله إبراهيم سن التسعين دون أن يرزق الولد, فألح علي الله بالدعاء أن يهبه الذرية الصالحة, فاستجاب الله الخالق الباريء المصور دعاء عبده ونبيه إبراهيم ورزقه ابنه إسماعيل علي الكبر من زوجته الثانية السيدة هاجر عليها رضوان الله, وفي ذلك يقول القرآن الكريم:
(وقال إني ذاهب إلي ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم)[ الصافات:99 ـ101].
2ـ أن الثقة في الله ـ تعالي ـ هي مصدر كل خير, فقد ابتلي نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ بالأمر الإلهي أن يضع زوجه السيدة هاجر ورضيعها إسماعيل في بقعة محددة من وادي مكة عند قواعد البيت الحرام, وهي يومئذ أرض قفر لا ماء فيها ولا بشر, وترك عندهما جرابا فيه شيء من التمر, وسقاء فيه قليل من الماء, ثم قفل راجعا في طريقة الي فلسطين, فتبعته أم إسماعيل قائلة: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا نبت ولا ماء؟ ورددت أم إسماعيل خطابها هذا لزوجها الراحل عنها مرارا, وهو لا يلتفت إليها فأدركت بفطرتها حتمية أن يكون ذلك الأمر من الله ـ تعالي ـ لعلمها بأن زوجها من أولي العزم
الفوز بيقين الواثق بالله, المؤمن به, والمتوكل عليه فالله إذا
إلي حيث تركت رضيعها, وانطلق إبراهيم ـ عليه السلام ـ في طريقه حتي إذا كان عند الثنية استقبل بوجهه موضع قواعد البيت ورفع يديه داعيا الله ـ تعالي ـ أن يخلفه في زوجه ووحيده, وفي ذلك يقول القرآن الكريم علي لسان نبي الله إبراهيم ما نصه: ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون[ إبراهيم:37].
فاستجاب الله ـ سبحانه وتعالي ـ لدعوة عبده ونبيه إبراهيم ـ عليه السلام ـ وأكرم زوجه السيدة هاجر ـ عليها رضوان الله ـ جزاء ثقتها المطلقة في رحمة الله, فأرسل عبده جبريل ـ عليه السلام ـ وقد نفد الماء من السقاء, وبدأ الرضيع في البكاء وأخذت أمه تهرول بين الصفا والمروة, وتعلو كل واحدة منهما عساها أن تري طيرا يحط فوق شيء من الماء, أو قادما يحمل معه سقاء, وفعلت ذلك سبع مرات دون جدوي, فجاءها جبريل ـ عليه السلام ـ قائلا: لا تخافي الضيعة فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه, وإن الله لا يضيع أهله, ثم قام بضرب الأرض بجناحه أو بعقبه فانفجرت بئر زمزم, وفرحت بها أم إسماعيل فرحا شديدا وخشيت أن يفيض الماء في الوادي فأخذت تحوط البئر بالرمال والحصي والأحجار وتقول لها زمي زمي ولذلك عرفت البئر باسم زمزم, وفي ذلك يقول المصطفي ـ صلي الله عليه وسلم: رحم الله أم إسماعيل لو تركتها كانت عينا معينا.( مسند أحمد).
وبقيت بئر زمزم تفيض بخير ماء علي وجه الأرض( كما وصفه رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم) وظلت تفيض لقرابة أربعة آلاف سنة من صخور نارية ومتحولة عديمة المسامية لتبقي آية شاهدة علي كرامة المكان, وكرامة لنبي الله إسماعيل ولأمه ـ عليهما السلام ـ ثم شاء الله ـ تعالي ـ أن يمر بوادي مكة نفر من قبيلة جرهم عائدين بتجارتهم من بلاد الشام إلي أرض اليمن فتعجبوا من وجود الماء في عين زمزم, فاستأذنوا من أم إسماعيل
أن يجاوروها وابنها إسماعيل فأذنت لهم, وتحققت دعوة نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ التي يسجلها القرآن الكريم علي لسانه بقوله:
(فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون)[ إبراهيم37]
3 ـ أن الدنيا هي دار ابتلاء وامتحان واختبار, وأن النجاح في الابتلاءات الدنيوية هو الطريق إلي جنة الخلد بإذن الله, وعلي ذلك فإن الإنسان إذا تعرض لشيء من الابتلاء فرضي بقضاء الله وقدره, وصبر عليه, فإما أن يرفع الله ـ تعالي ـ عنه البلاء أو يبين له خير هذا القضاء أو القدر.
ويتضح ذلك جليا في موقف كل من نبي الله إبراهيم وولده إسماعيل من أمر الله ـ تعالي ـ له أن يضع رضيعه الذي منحه علي الكبر مع أمه في واد غير ذي زرع علي بعد آلاف الكيلومترات من مسكنه. ويرضي كل منهم بقضاء الله وقدره, وبعد أن شب الرضيع وبدأ يتحمل مسئوليات أمه يأمره الله أن يذبح وحيده الذي رزقه في شيخوخته, بعد أن شب وحيده وأصبح قادرا علي السعي معه في تحقيق مطالب العيش ومستلزمات الحياة, وهو ابتلاء لا يقوي عليه أشد الناس إيمانا بالله ـ سبحانه وتعالي ـ ونجح كلاهما في هذا الابتلاء نجاحا استحق جزاء الله وثناءه علي كل منهما, وجعل من هذا الموقف النبيل سنة النحر في عيد الأضحي, إحياء لذكري هذا الحادث العظيم الذي يبقي رمزا لحقيقة الإيمان بالله, والتسليم الراضي لقضائه, وفي ذلك يقول القرآن الكريم:
(فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أري في المنام أني أذبحك فانظر ماذا تري قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين. فلما أسلما وتله للجبين. وناديناه أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين. إن هذا لهو البلاء المبين. وفديناه بذبح عظيم. وتركنا عليه في الآخرين سلام علي إبراهيم. كذلك نجزي المحسنين)[ الصافات102 ـ110].
4 ـ أن الدعاء هو مخ العبادة, وإذا صدر من القلب بإخلاص وتجرد لله ـ تعالي ـ استحق الاجابة, وإن عز الإنسان في الدنيا ونجاته في الآخرة قائمان علي درجة إيمانه بالله ـ تعالي ـ وإسلامه الوجه له, وعلي الخضوع بالطاعة لجلاله, والاستعداد لسرعة التوبة إليه, والثقة الكاملة بطلاقة القدرة الإلهية, واليقين الجازم بأنه لا سلطان في هذا الوجود لغير الله, وقد اتضحت كل هذه القيم الإيمانية بجلاء في استعراض القرآن الكريم لسيرة كل من نبي الله إبراهيم وولده الصالح إسماعيل ـ عليهما من الله السلام ـ ولذلك شرفهما الله ـ سبحانه وتعالي ـ بتكليفهما برفع القواعد من البيت العتيق, بعد أن كان قد تهدم ومحيت آثاره إلا القواعد, وهو عمل تقف دون تحقيقه جهود آلاف الرجال, وأكرمهما الله ـ تعالي ـ باستجابة دعائهما بتحقيق البركة في ذريتهما وببعثة الرسول الخاتم من تلك الذرية المباركة, وفي ذلك يقول القرآن الكريم:
(وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم)[ البقرة127 ـ129].
وهذا موقف من مواقف العبودية الحقة يرجو فيه نبيان من أنبياء الله أن يثبتهما الله ـ جلت قدرته ـ علي الإسلام الخالص وأن يثبت ذريتهما عليه, ويطلبان من الله ـ تعالي ـ الهداية وقبول التوبة, لأنهما يعلمان تمام العلم بأن القلوب بين أصبعين من اصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.
5 ـ أن الله ـ تعالي ـ يصطفي من عباده الصالحين من يبلغ هدايته إلي الناس, وفي ذلك يقول القرآن الكريم:
(الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير)[ الحج75].
ولهذا الاصطفاء الإلهي ضوابطه: من سلامة الجسد, ورجاحة العقل, وطهارة القلب, وسلامة الفطرة, لتوافر هذه الصفات في عبدالله إسماعيل بن إبراهيم, فقد من الله ـ تعالي ـ عليه بالنبوة وبالرسالة, وبعثه إلي كل من العماليق وقبيلة جرهم, وقبائل اليمن فنهاهم عن عبادة الأصنام والأوثان, ودعاهم إلي عبادة الله ـ تعالي ـ وحده بغير شريك ولا شبيه ولا منازع ولا صاحبة ولا ولد كما دعاهم إلي تنزيهه ـ تعالي ـ عن جميع صفات خلقه, وعن كل وصف لا يليق بجلاله, فآمنت له طائفة منهم وكفرت غالبيتهم, وظل يدعوهم حتي وافته منيته, ودفن في حجر الكعبة. حيث كانت قد سبقته إليه أمه فسمي باسم حجر إسماعيل وكان من ذريته العرب العاربة.
ويصف القرآن الكريم النبي الصالح إسماعيل بن إبراهيم ـ عليهما السلام ـ بقول الحق ـ تبارك وتعالي ـ مخاطبا خاتم أنبيائه ورسله ـ صلي الله عليه وسلم ـ قائلا له
واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا. وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا)[ مريم54 ـ55].
ولما كان كل من النبوة والرسالة قد ختم ببعثة الرسول الخاتم ـ صلي الله عليه وسلم ـ فإن علي كل من يريد أن يحظي برضاء ربه أن يتأسي بنبيل الصفات التي وصف بها ربنا ـ تبارك وتعالي ـ عبده ورسوله إسماعيل بن إبراهيم ـ عليما السلام ـ ومنها: صدق الوعد, والاجتهاد في الدعوة إلي دين الله, والحرص علي أمر الأهل بأداء الصلاة وإيتاء الزكاة, وفي ذلك يقول رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ: رحم الله رجلا قام من الليل فصلي وأيقظ امرأته, فإن أبت نضح في وجهها الماء, ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبي نضحت في وجهه الماء( سنن ابن ماجه).
هذه الدروس الخمسة المستقاة من استعراض القرآن الكريم لسيرة عبدالله ورسوله إسماعيل بن إبراهيم هي من جوانب الإعجاز التربوي والتاريخي في كتاب الله; وذلك لنبل مقاصدها التربوية, ولعدم وجود أية إشارة لها في كتب السابقين, خاصة أن نبي الله إسماعيل قد عاش في الألفية الثانية قبل الميلاد, أي قبل تنزل القرآن الكريم بأكثر من ألفي سنة.
فالحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد لله علي بعثة خير الأنام ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين ـ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.