[center]هم أهل الفضل
للصابرين عند ربهم منزلة عظيمة فهم يلقبون يوم القيامة بـ"أهل الفضل"؛ نظرًا لما يلاقون في دنياهم من ابتلاءات فيصبرون عليها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة نادى منادٍ: ليقم أهل الفضل، فيقومون وهم قليل، فيسيرون سِراعًا إلى الجنة، فتستوقفهم الملائكة وتقول: من أنتم؟ فيقولن: نحن أهل الفضل، فيقولون لهم وما فضلكم؟ فيقولون: كنا إذا ظُلمنا صبرنا، وإذا أسيء إلينا غفرنا، وإذا جُهِلَ علينا حلمنا؛ فتقول لهم الملائكة: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين".
ومن هنا كان لأسلافنا الكرام -رحمهم الله- باع طويل في توضيح أهمية تلك الأسلحة الإيمانية التي هي بمثابة جهاز مناعة للإيمان والإنسان، ومن ذلك الكلام القيم للعلامة ابن القيم الذي أورد فيه كثيرًا من المواضع التي ورد بها الصبر في القرآن الكريم، ونقل عن الإمام أحمد رحمه الله قوله: "ذكر الله سبحانه الصبر في القرآن الكريم في نحو تسعين موضعًا"، منها:
1 - الأمر به كقوله تعالى: {وَاصبِر وَمَا صَبُركَ إلا بِاللّهِ} [النحل: 127]، وقوله تعالى: {وَاصبِر لِحُكِمِ رَبِكَ} [الطور: 48].
2 - النهي عن ضده وهو الاستعجال كقوله تعالى: {فَاصبِر كَمَا صَبَرَ أُولُوا العَزمِ مِنَ الرُسُلِ وَلاَ تَستَعجِل لَهُم} [الأحقاف: 35]. وقوله: {وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحُوُتِ} [القلم: 48].
3 - الثناء على أهله، كقوله تعالى: {وَالصّابِرِينَ فِي البأساء وَالضّراء وَحِينَ البأسِ أُولَئِكَ الّّذَينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَقُونَ} [البقرة: 177].
4 - تعليق النصر والمدد عليه وعلى التقوى، كقوله تعالى: {بَلَى إن تَصبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأتُوكُم مِن فَورِهِم هَذَا يُمدِدكُم بِخَمسَةٍ آلَافٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125]، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "واعلم أن النصر مع الصبر".
5 - الإخبار بأن الفوز بالمطلوب المحبوب، والنجاة من المكروه المرهوب، ودخول الجنة وسلام الملائكة عليهم، إنما نالوه بالصبر، كما قال: {وَالملائكةُ يَدخُلُونَ عَلَيِهِم مِن كُلِ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيكُم بِمَا صَبَرتُم فَنِعمَ عُقبَى الدّارِ} [الرعد: 23، 24].
6 - الإخبار أنه إنما ينتفع بآيات الله ويتعظ بها أهل الصبر، كقوله تعالى: {وَلَقَد أرسَلنَا مُوسَى بِآياتِنآ أن أخرِج قَومَكَ مِنَ الظُلُماتِ إلى النورِ وَذَكِّرْهُم بِأيامِ اللّهِ إنَ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِ صَبّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5].
7 - الإخبار أن خصال الخير والحظوظ العظيمة لا يلقاها إلا أهل الصبر كقوله تعالى: {وَيلَكُم ثوابُ اللّهِ خَيرٌ لِمَن ءَامَنَ وَعَمِلَ صَلِحاً وَلاَ يُلَقاها إلا الصَابِرُونَ} [القصص: 80]، وقوله تعالى: {وَمَا يُلَقاها إلا الذّينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَها إلا ذُو حَظٍ عَظِيمٍ} [فصلت: 35].
8 - تعليق الإمامة في الدين بالصبر واليقين، كقوله تعالى: {وَجَعَلنا مِنهُم أئِمّةً يَهدُون بِأمرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِئَاياتِنا يُوقِنُون} [السجدة: 24]، فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.
9 - أن الله أثنى على عبده أيوب بأحسن الثناء على صبره فقال: {إنّا وَجَدنَاهُ صَابِراً نِعمَ العَبدُ إنَهُ أوابٌ} [ص: 44]، فأطلق عليه نعم العبد بكونه وجده صابرًا، وهذا يدل على أن من لم يصبر إذا ابتلي فإنه بئس العبد.
10 - أنه سبحانه قرن الصبر بأركان الإسلام ومقامات الإيمان، فقرنه بالصلاة في قوله: {وَاستَعِينُوا بِالصّبرِ وَالصّلاةِ} [البقرة: 45]، وبالتقوى في قوله تعالى: {إنّهُ مَن يَتَقِ وَيَصبِر} [يوسف: 90]، وبالشكر في قوله تعالى: {إن فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُور} [لقمان: 31]، وبالرحمة في قوله تعالى: {وَتَوَاصَوا بِالصّبرِ وَتَوَاصَوا بِالمرحَمَةِ} [البلد: 17]، وبالصدق في قوله: {وَالصَّادِقينَ وَالصَّادِقَات وَالصَّابِرين وَالصَّابِراتِ} [الأحزاب: 35].
11 - أعطى الله سبحانه وتعالى للصابرين دون غيرهم أجرهم بغير حساب كما قال تعالى: {إنَّمَا يُوَفَى الصَابِرُونَ أجْرَهُم بِغَيرٍ حِسابٍ} [الزمر: 10].
أمور منافية للصبر
لما كان الصبر حبس اللسان عن الشكوى إلى غير الله، والقلب عن التسخط والجزع، والجوارح عن لطم الخدود وشق الثياب وخمش الوجوه، ونحو ذلك، كان ما يقع من العبد منافيًا له، ومن هذه الأمور:
1 - مما ينافي الصبر الشكوى إلى المخلوق، فإذا شكا العبد ربه إلى مخلوق مثله فقد شكا من يرحمه ويلطف به ويعافيه وبيده ضره ونفعه إلى من لا يرحمه وليس بيده نفعه ولا ضره. وهذا من عدم المعرفة وضعف الإيمان. وقد رأى بعض السلف رجلاً يشكو إلى آخر فاقة وضرورة فقال: "يا هذا، تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك؟!".
ثم أنشد:
وإذا عرتك بلية فاصـبر لها *** صـبر الكـريم فـإنه بك أعلمُ
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما *** تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحمُ
بيد أن الصبر لا ينافي الشكوى إلى الله، فقد شكا يعقوب عليه السلام إلى ربه مع أنه وعد بالصبر فقال: {إِنَّما أشكُوا بَثِي وَحُزنِي إلى اللّهِ} [يوسف: 86].
ولا ينافي الصبر أيضًا إخبار المخلوق بحاله؛ كإخبار المريض الطبيب بحاله، وإخبار المظلوم لمن ينتصر به، إذا كان ذلك للاستعانة بإرشاده أو معاونته على زوال الضر.
2 - ومما ينافي الصبر ما يفعله أكثر الناس في زماننا عند نزول المصيبة من شق الثياب، ولطم الخدود، وخمش الوجوه، ونتف الشعر، والضرب بإحدى اليدين على الأخرى، والدعاء بالويل، ورفع الصوت عند المصيبة؛ ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن فعل ذلك.
بيد أنه لا ينافي الصبر البكاء والحزن من غير صوت ولا كلام محرم، قال تعالى عن يعقوب: {وَابيَّضَت عَينَاهُ مِنَ الحُزنِ فَهُوَ كَظِيم} [يوسف: 84]. قال قتادة: "كظيم على الحزن، فلم يقل إلا خيرًا".
3 - ومما يقدح في الصبر إظهار المصيبة والتحدث بها. وقد قيل: "من البرِّ كتمان المصائب والأمراض والصدقة". وقيل أيضًا: "كتمان المصائب رأس الصبر".
بيد أن الكلام عن المصيبة لمجرد أن يستشعر الإنسان وقوف إخوانه بجانبه وحاجته إليهم دون توسع فهذا لا ينافي الصبر.
4 - ومما ينافي الصبر الهلع، وهو الجزع الشديد عند ورود المصيبة والمنع عند ورود النعمة، قال تعالى: {إِنْ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إذا مَسَّهُ الشَرُ جَزُوْعاً * وَإذا مَسَّهُ الخَيَرُ مَنُوْعاً} [المعارج: 19 - 21].
يد أن الحزن والهلع الذي يتناسب مع حجم الموقف دون إفراط ودون معصية لا ينافي الصبر.
وأخيرًا..
للبحر مد وجزر، وللكلمة نفع وضر، ولكل جراح بلسم، وأفضل البلسم الصبر، فهو فضيلة المتقين، وسبيل إلى جنة النعيم، وهو في الحياة أليق بالأبي الكريم.
فإذا كان لديك الصبر فأبشر بقريب الفرج، فكلما طال بالإنسان صبره، نجح أمره. أما إذا كان جوابك النفي.. فما عليك سوى ترويض النفس على ما تكره، ومعاودة الكرَّة، وبذل الجهد والمسرة. ثم اشترِ من البضائع أجودها وأشدّها حمدًا للعاقبة، قال الشاعر:
يا بائع الصبر لا تشفق على الشاري فدرهم الصبر يساوي ألف دينار[/center]