انقضى النّهار، سار الرّعاة خلف مواشيهم، مخلّفين وراءهم موجة من الغبار المتصاعد.
أمسك حمدان عصاه، هشّ بها على بقرته، وعادا إلى القرية.
كانت البقرة تنقّل قوائمها، وتتمايل، كأنّما أطربها صوت راعيها الذي يغنّي خلفها.
لم يستغرق وصول حمدان إلى القرية زمناً طويلاً، فما كادت أغنيته تنتهي، حتّى سمع صوت أبي مروان، صاحب الدّكان الوحيد في القرية يناديه:
-حمدان.. حمدان.. تفضّل، اشرب كأساً من الشّاي.
دخل حمدان الدّكان، تلفتت البقرة حولها، لمحت "تنكةً" كبيرة أمام الباب، رُسِمَ عليها وجه بقرة ضاحك، مشت صوبها، قرّبت رأسها فدحمتها بقرنيها، رجعت قليلاً، قالت:
-من أنت؟!
-ألم تعرفيني؟ أنا صورتك.
أسبلت البقرة جفنيها، تذكّرت صورتها المرسومة على سطح ماء النهر قالت:
-صحيح.. أنتِ أنا، لكن ماذا تفعلين هنا؟
-أحرس الزّبدة بداخلي.
-زبدة!!
-أجل.. إنّهم يخضّون الحليب، فتطفو عليه زبدة لذيذة، يأكلها الناس بشهيّة.
ضحكت البقرة، نظرت بإعجاب إلى صورتها، قالت:
-الله.. كم أنا حلوة، لماذا لا يرسمون صورتي في كلّ مكان؟
-يمكن أن تحققي أمنيتك، لقد سمعتهم في المعمل يقولون: "إذا توفّر الحليب، سنصنع جبنة لذيذة، نضعها في علب دائرية، ونرسم بقرة ضاحكة على غطائها".
تخيّلت البقرة صورتها مرسومة في كلّ مكان، قرنان معقوفان كخنجرين عينان كبيرتان حلوتان، وجلد مبقّع بلوني اللّيل والنّهار.
فجأة.. خرج حمدان وقادها إلى الحظيرة.
عند وصولهما، أحضر حمدان الدلو، ركزه تحت أثداء بقرته، وبدأ يحلبها.
كان صوت ارتطام خيوط الحليب بحواف الدلو، يصدر لحناً حلواً.
انبسطت البقرة، أغمضت عينيها بعذوبة، تذكّرت صورتها، وسمعت صوت ضحكاتها.
صار حليبها يفيض على غير عادته، حتّى أنّها عندما فتحت عينيها دهشت لمنظر الحليب، الذي ملأ الدلو حتّى حوافّه.