2011
سلطان بن عبد الرحمن العثيم
إنه صوت الحق الذي يصدح به العبد بقلب مؤمن صادق نديّ خاشع، نداء للصلاة المفروضة على المسلمين، حيث ينتشر هذا الصوت حول العالم بشكل متتابع يطوف أرجاء الأرض بلا انقطاع، حسب اختلاف مواقيت الصلاة، بحسب اختلاف التوقيت مردّدًا الله أكبر، معلنة حان وقت الوصال بين الأرواح المتشوقة للقاء خالقها ومليِكها وبارئها، والاتصال به والاستزادة من فضله ونوره ورضاه عزّ في علاه.
إنها شعار ورسالة، منهج ومخرج، مضمون وافق مسنونًا تُرفع بالسماء عالية، وتُطلق من فوق المنابر الشاهقة تعبيرًا عن علوّ أصحاب هذه الرسالة ومكانهم الرفيع في الدنيا والآخرة، وعلوّ صاحب الشأن الأكبر بها ولها ومنها سبحانه وتعالى..
عاد الآذان من جديد لكي يُبثّ في التلفزيون التونسي الرسمي بعد منع طويل له، و لكل ما له علاقة بالإسلام والمنظومة الإسلامية المتكاملة، سواء الشخصية أو السياسية والاقتصادية والاجتماعية مثل: منع الحجاب، والتضييق على صلاة الجماعة في المساجد والمساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، ومنع تعدّد الزوجات، والسماح بالعشيقات بلا حد ولا عدد، وحظر للتيارات والأحزاب والمؤسسات الإسلامية من العمل والمشاركة السياسية والاجتماعية والثقافية والتنموية والفكرية، وملاحقتها واعتقال كوادرها، ونفيها خارج البلاد، وغير ذلك من الاستهداف الذي لم يتوقف عند ذلك الحد على الإطلاق.
بل طال هذا التطاول الحرث والنسل ولقمة العيش وحرية التعبير والتفكير وتحديد المصير، وأصبح هذا الشعب الأبي مضطهدًا في مقدساته وفي لقمة عيشه وخبز عياله وقوت يومه وغده!!
فقد انتشرت البطالة والفقر والفساد والعنوسة والطبقية البغيضة والجريمة المنظمة والضغوطات النفسية والعصبية والإحساس بالظلم والقهر، وهو الذي أشعل النار في جسد بائع الخضار -رحمه الله تعالى- الذي غيّر تونس السوداء إلى تونس الخضراء فعلًا، ولكن هذه المرة بعيون أهلها وليس بعيون الإعلام الذي ضلّل الحقيقة، وأضحى يرسم صورة مغايرة لما يحسّه التونسيون ولسان حالهم يقول: هل هناك تونسيون غيرنا يتمتعون بهذه النعم ونحن حصرت لنا النقم؟!
إنه الناموس الكوني الثابت؛ فبغير العدل لا تدوم النعم، وبغير التوازن لا تستمر الرحلة، ومن دون تطبيق الوعود وانعكاس الخطط إلى واقع لا يمكن أن يكون هناك ثقة بين جميع الأطراف المكونة للوطن والشعب والأمة..
..
وفي هذا الصدد تؤكد الكثير من الدراسات العلمية الحديثة أن الناس تثور حينما تُمسّ المقدسات أو لقمة العيش، وكلاهما توفّرا في النموذج التونسي البائد.
لن نستغرب ما حصل؛ فالشعوب ترفض عودة الاستعمار وهيمنة الأعداء، حتى لو كان ذلك بأناس من بني جلدتهم، ويتكلمون لغتهم، ويحملون عاداتهم وتقاليدهم، ويرتدون ملابسهم الوطنية، ويتناولون الأكلات الشعبية والمحلية، ولكن تختلف لديهم المرجعية والثوابت والمنطلقات النظرية والعملية، وتختلف الوجهة والمشروع والمقصد، ففريق آمن بدينه وتراثه ودستوره ووطنه وشعبه وإنسانية أبنائه، وأن ما صلح به أول هذه الأمة هو الذي سوف يصلح به آخرها، فكان صاحب القرار والخيار والانتصار، وفريق كان خاضعًا عميلًا للعدو، ووكيلًا للاستعمار حتى الانتحار، ومندوبًا للتغريب والصهيونية العالمية بكافة أشكالها وأهدافها، فأصبح كرتًا محروقًا لهم حينما سقط، حتى إنهم لم يستقبلوه على أراضيهم؛ فهو الآن لا يعني لهم شيئًا، وهذه هي نهاية كل باغٍ أثيم، وعلى الظالم تدور الدوائر.
إننا أمام حدث جلل تكمن فيه قوه الله ونصره، فهاهي تونس التي استقلت نظريًا قبل خمسين عامًا، تستقلّ عمليًا من ذيول الاستعمار الجديد ووكلائه الذين تحوّلوا إلى مستثمرين وأصحاب تجارة، يبيعون ويشترون في مصائر الشعوب ودمائهم وأرزاقهم ومستقبل أولادهم، ولكن كان للشعب الأصيل هنا كلمة الفصل، ولم يكن شعر أبي القاسم الشابي -الذي هو شعار تونس ونشيدها الوطني- كلامًا نظريًا يُردّد في الملاعب والمحافل والاستقبالات الرسمية حينما ردد يقول:
إذا الشعبُ يومًا أراد الحياةَ فلا بدَّ أن يستجيبَ القدرْ
ولابدّ لليل أنْ ينجلــــي ولا بدَّ للقيد أنْ ينكـسرْ
حاول أبو رقيبة أول رئيس لتونس بعد الاستقلال أن يجاري النظام العلماني الأتاتوركي البائد ذا الهوى الغربي في تركيا، وأن يقلد تلك التجربة، وشاء الله بعد حين أن تسقط كلا التجربتين: الأصل والصورة، وأن يؤكد الشعب خياراته وإيمانه الكبير بقيمه ودينه وعقيدته ومصادر التشريع والتوجيه الإلهي له، وذلك بعد (80) عامًا في تركيا، وبعد (50) عامًا في تونس، حيث عادت الأمور إلي نصابها بشكل تدريجي، وأصبح الإنسان يؤمن بأن العدل في الأرض لا يُبنى إلاّ على شريعة السماء، وأن المنهج القويم مع الفكر السديد، وأن العمل لا يُبنى إلاّ على علم، وأن العلم لا يُبنى إلاّ على وحي، وأن الوحي هو رسالة السماء إلى أهل الأرض، وأن هذه الرسالة هي مشروع الحياة، وخارطة الطريق، وعنوان الحرية الحقيقية حينما ينعتق الإنسان من شهواته ونزواته وهواه وشيطان أفكاره، ويعرف أنه بغير الهدى والهداية مهما بلغ لا يعدو كونه كائنًا متخبطًا لا يعرف من أين يبدأ ولا إلى أين النهاية.
إن غاية ما تنشده هذه الأمة وشعوبها هو السير على طريق الأنبياء والرسل، والصالحين والصادقين، والمخلصين والوطنيين في مدارج الحق والصلاح، وإعمار الأرض، وتنميتها وبناء الإنسان ونهضة الأوطان، والسير في مسالك الهدى والنور والغفران، وإقامة العدل وتفعيل الحرية وصون كرامة الإنسان، والمساواة بينه وبين الجميع، والعيش الكريم الذي كفله الشرع والعرف الإنساني، ورسائل الأنبياء كافة للبشرية على مرّ التاريخ البشري منذ آدم، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وأنه مهما أبُعدت هذه الشعوب أو ألهيت أو فُرض عليها ما لا تؤمن به، ولا تقتنع بفحواه فإن العدل الإلهي لا بد له من بصمة هنا، كما شاهدنا كلنا في تونس.
"محبرة الحكيم"
أكدت دراسة عالمية لمنظمة (ذا جلوب) العالمية الشهيرة والمتخصصة بالإحصائيات أنه وبعد حوالي (80) عامًا من الحكم العلماني في تركيا، وما تبعه من تقويض للمشروع الإسلامي وتفتيته رسميًا في القضاء والتعليم والإعلام والحياة العامة، والأنظمة والقوانين والتشريعات، والتشويش عليه، والتضيق على أهله بأن 78% تقريبًا من الشعب التركي يِِِؤكدون على أن الإسلام يجب أن يكون هو المصدر الأول والرئيس للتشريع في تركيا، وارتفعت النسبة في مصر والأردن وإيران إلى ما بين 90 % - 92%.
قال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ).
عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
"إن الدين يسر، ولن يُشادّ الدين أحد إلاّ غلبه؛ فسدّدوا وقاربوا و أبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدّلجة". [صحيح البخاري ج1/ص23].