كارل ماركس
مقدمة فريدريك انجلس لطبعة عام 1891
صدر هذا البحث اولا في سلسلة من الافتتاحيات نشرتها ”الجريدة الرينانية الجديدة“1 في 1849 ابتداءً من 4 ابريل. وعماده المحاضرات التي القاها ماركس عام 1847، في رابطة العمال الالمان ببروكسيل. ولم تتم هذه السلسلة، ذلك ان التعهد الذي ينطوي عليه تعبير ”البقية تتبع“ الوارد في نهاية المقال المنشور في العدد 269 من الجريدة لم يتحقق نظراً للاحداث التي تسارعت في ذلك الحين – الغزو الروسي في المجر، الانتفاضات في مدن درسدن وايزيرلون والبرفلد وفي مقاطعتي البالاتينا وبادن – والتي ادت الى الغاء الجريدة نفسها (19 ماي 1849). ولم نجد قط مخطوطة البقية في اوراق ماركس بعد وفاته.
لقد صدر ”العمل المأجور والرأسمال“ في كراس واحد عدة مرات وصدر للمرة الاخيرة في عام 1884 في غوتنغين-زوريخ في ”المطبعة التعاونية السويسرية“. وفي جميع الطبعات الصادرة حتى الآن، طبع النص الاصلي بكل ضبط ودفة. ولكن هذه الطبعة الجديدة عبارة عن كراس للدعاية ومن المنوي نشر ما لا يقل عن 10.000 نسخة منها. ولذلك تساءلت فيما اذا كان ماركس يوافق على اعادة طبع النص الاصلي دون أي تعديل والحال هذه.
في العقد الخامس لم يكن ماركس قد انتهى من وضع انتقاده للاقتصاد السياسي. ولم ينجز هذا العمل الا في اواخر العقد السادس. ولذا فان كتاباته التي صدرت قبل الكراس الاول من مؤلفه ” مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي“ (1859) تختلف في بعض النقاط عما كتبه بعد عام 1859. فهي تحتوي تعابير وجملا كاملة تبدو، بالنسبة للمؤلفات اللاحقة، غير موفقة وحتى خاطئة. مع انه بديهي تماماً ان وجهة النظر السابقة هذه، التي هي درجة من درجات تطور المؤلف فكريا، انما يجب ان تنعكس ايضا في الطبعات العادية المعدة لجمهور القراء العاديين وان للمؤلف وللجمهور على السواء حقاً ثابتاً لا مراء فيه في اعادة طبع هذه الكتابات السابقة دون أي تعديل. وفي هذه الحال لن يخطر ببالي ابداً ان ابدل فيها كلمة واحدة.
ولكن الوضع يختلف حين تكون الطبعة الجديدة معدة للدعاية بين العمال، بوجه الحصر تقريبا. فمن المؤكد في مثل هذا الوضع ان ماركس كان عدل النص السابق الذي يعود الى عام 1849 وفقا لوجهة نظره الجديدة، واني على ثقة باني اعمل بروح ماركس تماما اذ الجأ في هذه الطبعة الى بعض التعديلات والاضافات التي لا بد منها لأجل بلوغ هذا الهدف وكل النقاط الجوهرية. ولذا اقول للقارىء سلفا : ها هو الكراس، لا كما دبجه ماركس في عام 1849، بل تقريبا كما كان من المحتمل ان يكتبه في عام 1891. هذا مع العلم ان تانص الحقيقي قد صدرت منه اعداد كبيرة من النسخ الى حد انها تتيح الانتظار الى ان اتمكن من اعادة طبعه فيما بعد دون أي تعديل في طبعة للمؤلفات الكاملة.
ان التعديلات التي اجريتها انما تدور كلها حول نقطة واحدة. فما يبيعه العامل للرأسمالي لقاء الاجرة، انما هو عمله حسب النص الاصلي، اما حسب النص الحالي فهو يبيع قوة عمله. ولا بد لي من ان اوضح اسباب هذا التعديل. ولا بد لي من ان اقدم الايضاحات للعمال لكي يروا ان المسألة ليست مجرد مسألة تعابير وكلمات، وانما هي، على العكس، نقطة من اهم النقاط في الاقتصاد السياسي بكليته. ولا بد لي ايضا ان اقدم هذه الايضاحات للبرجوازيين لكي يقتنعوا بان العمال الذين لو يحصلوا على أي تعليم والذين يمكن افهامهم بسهولة اصعب الابحاث الاقتصادية، هم أسمى بما لاحد له من اصحابنا ”المثقفين“ المتغطرسين الذين تظل مل هذه المسائل المعقدة لغزا مغلقا على عقولهم طوال حياتهم.
ان الاقتصاد السياسي الكلاسيكي2 يستمد من النشاط العملي الصناعي هذه الفكرة الرائجة بين الصناعيين وهي ان الصناعي يشتري عمل عماله ويدفع اجره. وقد كانت هذه الفكرة تكفي الصناعي تماما لمباشرة الاعمال والمحاسبة وحساب الاسعار. فما ان نقلت بكل سداجة الى ميدان الاقتصاد السياسي، حتى احدثت فيه بلبلة غريبة وتشوشا مدهشا.
ان الاقتصاد السياسي يواجه الواقع التالي، وهو ان اسعار جميع البضائع، ومنها سعر البضاعة التي يسميها ”العمل“ تتغير باستمرار ؛ وانها ترتفع وتهبط بفعل ظروف غاية في التنوع والتباين، وكثيرا ما لا تمت باية صلة الى انتاج البضاعة نفسها، فيبدو ان الاسعار انما تتحدد على وجه العموم بفعل الصدفة وحدها. ولكن، ما ان ظهر الاقتصاد السياسي بمظهر العلم3، حتى ترتب عليه، بين مهماته الاولى، ان يجد القانون الذي تختفي وراءه هذه الصدفة التي تشرف ظاهريا على أسعار البضائع، والذي يسيطر في الواقع على هذه الصدفة عينها. وضمن حدود هذه الاسعار التي تتقلب باستمرار، وترجحاتها تارة من أدنى الى أعلى وطورا من أعلى الى أدنى، بحث الاقتصاد السياسي عن النقطة الوسطية الثابتة التي تدور حولها هذه التقلبات وهذه الترجحات. وبكلمة موجزة، انطلق الاقتصاد السياسي من اسعار البضائع باحثا عن قيمة البضائع بوصفها القانون الذي يتحكم بالاسعار، عن القيمة التي تساعد على تفسير جميع ترجحات الاسعار والتي تمكن نسبتها كلها الى هذه القيمة في آخر المطاف.
والحال، ان الاقتصاد السياسي الكلاسيكي قد وجد ان قيمة البضاعة انما يحددها العمل الضروري لانتاجها والمتجسد فيها، واكتفى بهذا التفسير. وبوسعنا نحن ايضا ان نتوقف عنده لحظة. غير اني اجتنابا لكل سوء في الفهم، لا بد لي من ان اشير الى ان هذا التفسير لم يبق كافيا اطلاقا في ايامنا هذه. وقد كان ماركس اول من درس بتعمق قدرة العمل على خلق القيمة ووجد انه ليس كل عمل ضروري ظاهريا او فعلا لانتاج بضاعة معينة يضيف، في مطلق الاحوال، الى هذه البضاعة قدرا من القيمة يتناسب مع كمية العمل المبذول. فاذا قلنا اذن اليوم بايجاز، مع اقتصاديين امثال ريكاردو، ان قيمة بضاعة معينة انما يحددها العمل الضروري لانتاجها فانما لا تغيب عن بالنا ابدا التحفظات التي ابداها ماركس بهذا الصدد. وهكذا يكفي هنا. واننا لنجد البقية عند ماركس في كتابه ”مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي“ (1859) وفي المجلد الاول من ”رأس المال“.
ولكن ما ان طبق الاقتصاديون طريقة تحديد القيمة بالعمل، على البضاعة ”العمل“ حتى راحوا في تناقض اتر تناقض. فكيف تحدد قيمة ”العمل“ ؟ بالعمل الضروري المتجسد فيها. ثم أي قدر من العمل ينطوي عليه عمل العامل في اليوم، في الاسبوع، في الشهر، في السنة ؟ انه ينطوي على عمل يوم، اسبوع، شهر، سنة. فاذا كان العمل هو مقياس حميع القيم، فاننا لا نستطيع التعبير عن ”قيمة العمل“ الا في العمل. ولكننا لا نعرف شيئا على الاطلاق بشأن قيمة ساعة من العمل اذا عرفنا فقط انها تعادل ساعة من العمل. وهكذا لم نقترب من الهدف قيد شعرة ولم نفعل غير ان درنا في حلقة مفرغة.
ولذا حاول الاقتصاد السياسي الكلاسيكي استخدام طريقة اخرى. فهو يقول : ان قيمة بضاعة معينة انما تعادل نفقات انتاجها. ولكن، ما هي نفقات انتاج العمل ؟ للجواب عن هذا السؤال، يضطر الاقتصاديون مجافات المنطق بعض الشيء. ولما كان من غير الممكن، مع الاسف، تحديد نفقات انتاج العمل بالذات، فهم يحاولون اذ ذاك ان يعرفوا ما هي نفقات انتاج العامل. وهذه النفقات انما يمكن تحديدها. فهي تتغير حسب الزمن والظرف، ولكنها في اوضاع اجتماعية معينة، ومكان معين، وفرع معين من الانتاج، معينة ومعروفة على الاقل ضمن حدود ضيقة الى حد ما. ونحن نعيش اليوم في ظل سيادة الانتاج الرأسمالي حيث طبقة كبيرة من السكان، تنمو وتتكاثر يوما بعد يوم، لا تستطيع ان تعيش الا اذا عملت لقاء اجر من اجل مالكي وسائل الانتاج – من ادوات وآلات ومواد اولية ووسائل عيش. وعلى اساس هذا الاسلوب في الانتاج تتألف نفقات انتاج العامل من مجمل وسائل عيشه – او في مجمل اثمانها نقدا – التي هي ضرورية، بصورة وسطية، لمده بالقدرة على العمل، والحفاظ على هذه القدرة، للاستعاضة عنه بعامل جديد اذا ما اقصاه المرض او العمر او الموت عن الانتاج، أي لتمكين الطبقة العاملة من التناسل والتكاثر بالمقادير الضرورية. ولنفترض ان وسائل العيش هذه انما يبلغ ثمنها نقدا بصورة وسطية 3 ماركات في اليوم.
فان العامل يتقاضى اذن من الرأسمالي الذي يشغله اجرة قدرها 3 ماركات في اليوم. ولقاء هذه الاجرة، يشغله الرأسمالي، لنقل 12 ساعة في اليوم. وفي هذه الحال يفكر الرأسمالي على النحو التالي تقريبا :
لنفترض ان العامل – وهو خرّاط مثلا – انما يترثب عليه ان يصنع قطعة آلة وينتهي منها في يوم ولحد. ولنفترض ان المادة الاولية – لاحديد والنحاس الاصفر بشكلهما الضروري المحضر سلفاً – تكلف 20 ماركاً ؛ وان استهلاك الفحم في الآلة البخارية واستهلاك هذه الآلة نفسها والمخرطة وسائر الادوات التي يشتغل بها العامل، يبلغ، في يوم واحد، وبالنسبة لما يصرفه العامل، ما قيمته مارك واحد. لقد افترضنا ان اجرة العامل 3 ماركات في اليوم. وهكذا تبلغ تكاليف قطعة الآلة 24 ماركاً بالاجمال. ولكن الرأسمالي يحسب ان يحصل من زبنائه على ثمن وسطي قدره 27 ماركاً أي بزيادة 3 ماركات عن النفقات التي قدمها.
فمن اين جاءت هذه الماركات الثلاثة التي يضعها الرأسمالي في جيبه ؟ ان الاقتصاد السياسي الكلاسيكي يؤكد ان البضائع تباع بصورة وسطية حسب قيمتها، أي باسعار تناسب كميات العمل الضرورية التي تنطوي عليها هذه البضائع. فكأن متوسط ثمن قطعة الآلة التي اتخدناها مثالاً – أي 27 ماركاً – يساوي قيمتها، يساوي العمل المتجسد فيها. ولكن 21 ماركاً من اصل هذه الماركات الـ27، كانت فيمة موجودة قبل ان يبدأ صاحبنا الخراط العمل، منها 20 ماركاً تنطوي عليها المادة الاولية، ومارك واحد ينطوي عليه الفحم المحروق اثناء العمل او الآلات والادوات التي استخدمت لهذا الغرض ونقصت صلاحيتها للعمل بما يوازي هذا المبلغ. تبقى 6 ماركات اضيفت الى قيمة المادة الاولية. ولكن هذه الماركات الـ6، كما يقر به اقتصاديونا بالذات، لايمكنها ان تنجم الا من العمل الذي يضيفه عاملنا الى المادة الاولية. وهطذا فان عمله مدة 12 ساعة قد خلقت قيمة جديدة قدرها 6 ماركات ؛ وبالتالي فان قيمة عمله مدة 12 ساعة تعادل 6 ماركات. وعلى هذا النحو نكون قد توصلنا آخر المطاف الى اكتشاف ”قيمة العمل“.
” قف !“ - يهتف بنا خرّاطنا. – ”6 ماركات ؟ ولكنني لم اقبض الا 3 ماركات ! ان الرأسمالي يحلف الايمان المغلظة ان قيمة عملي مدة 12 ساعة لا تساوي الا 3 ماركات واذا طالبت بـ6، فانه يسخر مني. فما معنى هذا ؟“
واذا كنا بلغنا سابقا بقيمة العمل الى حلقة مفرغة، فها نحن الآن نتيه تماماً في خضم تناقض لا مخرج منه. لقد فتشنا عن قيمة العمل ووجدنا اكثر مما كان ينبغي لنا. فان قيمة 12 ساعة عمل هي 3 ماركات بالنسبة للعامل و6 ماركات بالنسبة للرأسمالي الذي يدفع منها للعامل اجرة 3 ماركات ويضع الماركات الثلاث الباقية في جيبه. وهكذا يكون للعمل بالتالي لا قيمة واحدة، بل قيمتان اثنتان ومتباينتان كل التباين ايضا !
ويزداد التناقض خراقة، ما ان نعيد القيم المعبر عنها نقدا الى وقت العمل. ففي ساعات العمل الـ12 نشأت قيمة جديدة قدرها 6 ماركات، أي 3 ماركات في 6 ساعات، وهو المبلغ الذي تلقاه العامل لقاء 12 ساعة عمل. وهكذا فان العامل تلقى لقاء 12 ساعة عمل ما يعادل منتوج 6 ساعات عمل. اذاً، اما ان يكون للعمل قيمتان احداهما ضعف الاخرى، واما ان 12 تساوي 6 ! وفي الحالتين كليهما، نصل الى مُحال.
ومهما بذلنا من الجهود، فاننا لن نخرج ابداً من هذا التناقض طالما اننا نتحدث عن شراء وبيع العمل وقيمة العمل. وهذا ما حدث بالضبط لاصحابنا الاقتصاديين. فان الشعبة الاخيرة من الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، ونعني بها مذهب ريكاردو، قد انهارت لعجزها، بالدرجة الاولى، عن حل هذا التناقض. فقد وقع الاقتصاد السياسي الكلاسيكي في مأزق. وكان كارل ماركس هو الذي وجد السبيل للخروج من هذا المأزق
ان ما اعتبره الاقتصاديون تفقات انتاج ”العمل“، انما لم يكن نفقات انتاج العمل، بل نفقات انتاج العامل الحي نفسه. وما يبيعه العامل للرأسمالي ليس عمله. يقول ماركس : ”ما ان يبذأ العامل عمله حقا، حتى يكف عمله عن ان يكون ملكه، ولذا لا يعود بوسعه ان يبيعه.“4 فاكثر ما يستطيع ان يبيعه هو عمله المقبل، أي ان يقطع على نفسه عهداً بتحقيق عمل هو عمله المقبل، أي ان يقطع على نفسه عهداً بتحقيق عمل مين في اجلٍ معين. ولكنه، والحال هذه، لا يبيع عمله (الذي سيقوم به في المستقبل) انما يضع تحت تصرف الرأسمالي لمدة معينة (في حالة الاجرة اليومية) او للقيام بعمل معين (في حالة الاجرة بالقطعة) قوة عمله مقابل اجر معين ؛ فهو يؤجر او يبيع قوة عمله. غير ان قوة العمل هذه مرتبطة بشخصيه ارتباطا وثيقا لا يمكن فصم عراه. ولذا فان نفقات انتاجها تطابق بالتالي نفقات انتاجه هو بالذات. وما كان يسميه الاقتصاديون نفقات انتاج العمل انما هي بالضبط نفقات انتاج العامل وبالتالي نفقات انتاج قوة العمل. وبوسعنا ان نعود هكذا من نفقات انتاج قوة العمل الى قيمة قوة العمل، وتحديد كمية العمل الضروري اجتماعياً لانتاج قوة عمل من كيفية معينة، كما فعل ماركس في قسم شراء وبيع قوة العمل (”الرأسمال“، المجلد الاول، الفصل الرابع، الباب الثالث).
ولكن ماذا يحدث بعد ان يبيع العامل قوة عمله للرأسمالي، أي بعد ان يضعها تحت تصرفه مقابل اجر متفق عليه سلفا – سواء أكان اجرا يوميا ام اجرا بالقطعة ؟ ان الراسمالي يقود العامل الى مشغله او الى مصنعه حيث تتوافر جميع الاشياء الضرورية لعمله من مواد أولية، ومنتجات ثانوية (فحم، اصباغ، الخ.)، وادوات، وآلات. وفي هذا المشغل او في ذاك المصنع، يشرع العامل في الكدح والعمل. واجرته اليومية، كما سبق وافترضنا آنفا، 3 ماركات، - سواء أكسبها بالمياومة او بالقطعة، فالامر سيان. ونحن نفترض ايضا في هذه الحالة ان العامل، بعمله مدة 12 سلعة، انما يُضمن المواد الاولية المستخدمة قيمة جديدة قدرها 6 ماركات، هذه القيمة الجديدة يحققها الرأسمالي ببيع القطعة بعد الانتهاء من صنعها. ومن هذه الماركات الستة، يدفع 3 ماركات للعامل ؛ ويحتفظ لنفسه بالماركات الثلاثة الباقية. وهكذا، اذا خلق العامل في 12 ساعة قيمة قدرها 6 ماركات فانه يخلق في 6 ساعات قيمة قدرها 3 ماركات. فهو اذن، حين يشتغل 6 ساعات للرأسمالي، يرد للرأسمالي ما يعادل الماركات الثلاثة التي قبضها على شكل اجرة. فبعد 6 ساعات عمل، يكون كل منهما قد برأ ذمته تجاه الآخر ولا يترتب لاحدهما على الآخر أي شيء.
واذا الرأسمالي يصرخ الآن :”رويدك ! لقد استأجرت العامل ليوم كامل، 12 ساعة. و6 ساعات ليست سوى نصف يوم. اذن، إكدح وإعمل حتى تنتهي ابضا الساعات الستة الاخرى – وحينذاك فقط، يبرىء كل منا ذمته تجاه الآخر !“. ويجب على العامل ان يخضع بالفعل للعقد الذي قبل به ”بملء ارادته“ والذي تعهد بموجبه العمل 12 ساعة كاملة مقابل منتوج يكلف 6 ساعات عمل.
والحالة نفسها تماما في العمل بالقطعة. لنفترض ان عاملنا يصنع في 12 ساعة 12 قطعة من البضاعة عينها. وكل قطعة تكلف ماركين من المواد الاولية واستهلاك الآلات وتباع بماركين ونصف مارك. فاذا استندنا الى الافتراضات السابقة نفسها، فان الرأسمالي يعطي العامل 25 بفينيغا5 للقطعة، أي انه يعطيه مقابل 12 قطعة 3 ماركات ظل العامل يكدح 12 ساعة لكسبها. اما الرأسمالي، فيقبض مقابل الاثناعشرة قطعة 30 ماركاً ؛ وبعد خصم 24 ماركاً من هذا المبلغ مقابل المادة الاولية وتلف اللآلات يبقى 6 ماركات يدفع الرأسمالي منها 3 ماركات اجرة ويضع في جيبه 3 ماركات كما في الحالة الاولى. ففي الحالة الثانية ايضاً، يشتغل العامل 6 ساعات لنفسة، أي تعويضا لاجره (نصف ساعة في كل من الـ12 ساعة) و6 ساعات للرأسمالي.
ان الصعوبة التي تحطمت عليها جهود خيرة الاقتصاديين طالما انهم انطلقوا من قيمة ”العمل“ تزول ما ان ننطلق من قيمة ”قوة العمل“ لا من قيمة ”العمل“. فان قوة العمل هي في مجتمعنا الرأسمالي الحالي، بضاعة كجميع البضائع الاخرى، ولكنها مع ذلك بضاعة من نوع خاص تماماً. فانها بالفعل تتصف بميزة خاصة تتقوم في كونها قوة تخلق القيمة في كونها ينبوع قيمة، بل أكثر من ذلك، اذ انها تخلق عند استخدامها بصورة ملائمة، قيمة تفوق القيمة التي تملكها هي نفسها. وفي حالة الانتاج الراهنة، لا تنتج قوة العمل الانساني في يوم واحد فقط قيمة اكبر من القيمة التي تملكها والتي تكلفها هي نفسها ؛ فلدى كل اكتشاف علمي جديد، لدى كل اختراع تقني جديد، يزداد هذا الفائض من المنتوج اليومي لقوة العمل على كلفتها اليومية وبالتالي يقل القسم من العمل، الذي يضطر فيه الى تقديم عمله للرأسمالي دون أي مقابل.
هكذا هو النظام الاقتصادي لكل مجتمعنا الحالي : فان الطبقة العاملة وحدها هي التي تنتج جميع القيم. لان القيمة ليست سوى شكل آخر للعمل، ليست سوى التعبير الذي تعين به في مجتمعنا الرأسمالي الحالي كمية العمل الضروري اجتماعيا المتجسدة في بضاعة معينة. ولكن هذه القيم التي ينتجها العمال لا تخص العمال. انما تخص مالكي المواد الاولية والآلات والادوات والسلفيات المالية التي تتيح لهم شراء قوة عمل الطبقة العاملة. وهكذا لا يعود الى الطبقة العاملة من مجمل المنتجات التي تبدعها سوى قسم فقط. ان القسم الثاني الذي تحتفظ به الطبقة الرأسمالية والذي يترتب عليها الاكثر ان تتقاسمه ايضا مع طبقة الملاكين العقاريين يزداد اكثر، فاكثر، كما سبق ورأينا، لدى كل اكتشاف واختراع جديد، في حين ان القسم العائد الى الطبقة العاملة (محسوبا بالنسبة لكل فرد من افرادها) اما انه لا يزداد الا ببطء شديد وبصورة طفيفة لا يؤبه لها، واما انه يجمد على حاله واما ايضا انه ينقص في بعض الاحوال.
ولكن هذه الاكتشافات والاختراعات التي يزيح بعضها بعضا بسرعة متزايدة على الدوام، وهذا المردود من العمل الانساني الذي ينمو كل يوم بمقاييس لم يسمع لها بمثيل، انما تستثير في آخر المطاف نزاعا لا بد ان يؤدي بالاقتصاد الراسمالي الراهن الى التلاشي. فمن جهة، ثروات لا عد لها وفائض من المنتجات لا يستطيع المستهلكون شراءه. ومن جهة اخرى، السواد الاعظم من افراد المجتمع الذين تحولوا الى بروليتاريين، الى أجراء، وغدوا بالتالي عاجزين عن امتلاك هذا الفائض من المنتجات. وانقسام المجتمع الى طبقة صغيرة لا حد لغناها والى طبقة كبيرة من الاجراء غير المالكين يجعل هذا المجتمع يختنق في ترفهه بالذات، في حين ان الاغلبية الكبرى من افراده تكاد تكون غير محمية او حتى هي غير محمية اطلاقاً من غائلة البؤس المدقع. وهذا الوضع، انما يشتد يوما بعد يوم ما يتصف به من طابع اخرق لا فائدة منه. ولذا فان ازالته ضرورية وممكنة. ومن الممكن قيام نظام اجتماعي جديد حيث تزول فيه الفوارق بين الطبقات وحيث – ربما بعد مرحلة انتقال قصيرة، عجفاء لحد ما، ولكنها على كل حال مفيدة جداً اخلاقياً – بفضل استخدام قوى المجتمع الانتاجية الهائلة القائمة استخدامها منهاجيا، وبفضل استمرار تطور هذه القوى، وبفضل العمل الالزامي والمتساوي بالنسبة للجميع، - توضع وسائل الحياة والتمتع بالحياة والتطور والافادة من كل الامكانيات العقلية والجسمانية تحت تصرف الجميع وبوفرة متنامية على الدوام. والدليل على ان العمال يوطدون العزم اكثر فاكثر على الظفر بهذا النظام الاجتماعي الجديد عن طريق النضال امنا يقدمه لنا من على جانبي المحيط يوم اول ماي غذاً ويوم الاحد القادم، 3 ماي.6
فريدريك انجلس - لندن، 30 ابريل 1891.
كتب انجلس هذه المقدمة لطبعة
خاصة لبحت ماركس ”العمل المأجور
والرأسمال“ الذي صدر في برلين
عام 1891.وهو الذي نقدم في ما يلي.
العمل المأجور والرأسمال
كارل ماركس
لقد انتقدونا من مختلف الجهات لاننا لم نصف العلاقات الاقتصادية التي تشكل الاساس المادي للنضال الطبقي والوطني المعاصر. فاننا لم نتناول هذه العلاقات بانتظام الا حين برزت امامنا مباشرة في الاصطدامات السياسية.
فقد كان المقصود بالدرجة الاولى تتبع النضال الطبقي في مجرى التاريخ والبرهنة – على ضوء الاختبار وعى ضوء الحقائق التاريخية القائمة والمتجددة يوميا – على ان هزيمة الطبقة العاملة التي قامت بثورتي فبراير مارس7 قد كانت في الوقت نفسه هزيمة لخصوم الطبقة العاملة – أي الجمهوريين البرجوازيين في فرنسا والطبقات البرجوازية والفلاحية المناضلة ضد الحكم المطلق الاقطاعي في عموم القارة الاوروبية ؛ وعلى ان انتصار ”الجمهورية الشريفة“ في فرنسا كان في الوقت نفسه هزيمة الامم التي ردت على ثورة فبراير بحروب بطولية من اجل الاستقلال ؛ وعلى ان اوروبا، بسبب من هزيمة العمال الثوريين، عادت وهوت في لجة عبوديتها القديمة المزدوجة، العبودية الانجلو-روسية. معارك يونيو في باريس، وسقوط فيينا ومهزلة-مأساة برلين في نوفمبر عام 1848، وما بذلته بولونيا وايطاليا والمجر من جهود يائسة، وخنق ارلندة بالجوع، - تلك كانت الاحداث الرئيسية التي انعكس فيها بصورة مركزة الصراع الطبقي بين البرجوازية والطبقة العاملة في اوروبا واتاحت لنا ان نقدم الدليل على ان كل انتفاضة ثورية، مهما بدا هدفها بعيدا عن الصراع الطبقي، ستظل تمنى بالضرورة بالاخفاق الى ان تنتصر الطبقة العاملة الثورية، وان كل اصلاح اجتماعي يظل مجرد طوبوية ووهم الى ان تتقابل الثورة البروليتارية والثورة المضادة الاقطاعية بالسلاح في حرب عالمية، وفي بحثنا كما في الواقع، كانت بلجيكا وسويسرا كأنهما رسمان من النوع الكاريكاتوري والمضحك المبكي في لوحة التاريخ الكبرى، الاولى معروضة على انها الدولة النموذجية للملكية البرجوازية، والثانية على انها الدولة النمودجية للبرجوازية، وكل منهما تتصور انها مستقلة سواء عن الصراع الطبقي او الثورة الاوروبية.
وىلآن، وقد رأى قراؤنا الصراع الطبقي عام 1848 يتطور ويرتدي اشكالا سياسية هائلة. حان الحين للتعمق في دراسة العلاقات الاقتصادية نفسها التي يقوم عليها وجود البرجوازية وسيادتها الطبقية كما تقوم عليها عبودية العمال.
وسنعرض في ثلاثة فصول كبيرة :1 – العلاقات بين العمل المأجور والرأسمال، عبودية العمال، سيادة الرأسمال ؛ 2 – حتمية سير الطبقات البرجوازية المتوسطة وما يسمى فئة البورغير، في ظل النظام الحالي، في طريق الزوال ؛ 3 – استثمار الطبقات البرجوازية في مختلف امم اوروبا واخضاعها تجارياً من جانب طاغية السوق العالمية، أي انجلترا.
وسنحاول ان نقدم بحثا بسيطا وشعبيا قدر الامكان ودون ان نفترض لدى القارىء سابق معرفة بابسط مفاهيم الاقتصاد السياسي. فنحن نريد ان يفهمنا العمال. هذا مع العلم ان الجهل المذهل وفوضى الافكار حول ابسط العلاقات الاقتصادية يسودان في كل مكان في المانيا بين المدافعين الرسميين عن الوضع الراهن وحتى بين صانعي المعجزات الاشتراكيين والعباقرة السياسيين المغموطة افضالهم، الذين عند المانيا المجزأة منهم اكثر مما عندها مــن عاهـل (souverains).
لنعالج اذن المسألة الاولى :
ماهي الاجرة ؟ وكيف تحدد ؟
اذا سألت عددا من العمال عن مقدار اجورهم، لأجابك احدهم : ”اني اقبض من ربي عملي ماركاً واحداً في اليوم“، واجابك الثاني ”اني اقبض ماركين“، وهلمجراً. وتبعا لمختلف فروع العمل التي يعملون فيها، يذكرون مختلف المبالغ المالية التي يتقاضاها كل منهم من رب عمله لقاء القيام بعمل معين، مثلا لقاء حياكة متر من القماش او تركيب صفحة في المطبعة، ورغم تنوع اجوبتهم فانهم متفقون بالاجماع حول نقطة واحدة : ان الاجرة هي مبلغ المال الذي يدفعه الرأسمالي لقاء وقت محدد من العمل او لقاء القيام بعمل معين.
فالرأسمالي يشتري اذن (كما يبدو) عمل العمال بالمال. ولقاء المال يبيعونه عملهم. ولكن الامر ليس كذلك الا ظاهريا. فان ما يبيعونه في الواقع للرأسمالي لقاء المال، انما هو قوة عملهم. فالرأسمالي يشتري قوة العمل هذه ليوم واحد، لأسبوع، لشهر وهلمجرا. ومتى اشتراها، استخدمها بتشغيل العامل خلال الوقت المتفق عليه. وبهذا المبلغ المالي نفسه الذي اشترى به الرأسمالي قوة عمل العامل، بماركين، مثلا كان بوسعه ان يشتري كيلوغرامين من السكر او كمية معينة من بضاعة اخرى. فالماركان اللذان اشترى بهما كيلوغرامين من السكر هما ثمن الكيلوغرامين من السكر. والماركان اللذان اشترى بهما 12 ساعة من استخدام قوة العمل هما ثمن 12 ساعة من عمل. فقوة العمل اذن بضاعة شأنها شأن السكر لا أكثر ولا اقل. الاولى تقاس بالساعة والثانية بالميزان.
ان بضاعة العمال، أي قوة عملهم، انما يبادلونها ببضاعة الرأسمالي، بالمال، وهذا التبادل يتم وفق نسبة معينة. قدر معين من المال مقابل قدر معين من استخدام قوة العمل. مقابل 12 ساعة حياكة ماركان. وهذان الماركان، ألا يمثلان جميع البضائع الاخرى التي استطيع شراءها بماركين ؟ وهكذا بادل العامل ادن بضاعة، هي قوة العمل، ببضائع متنوعة، وذلك وفقا لنسبة معينة. فحين يعطيه الرأسمالي ماركين، فكأنه يعطيه قدراً معينا من اللحم، من الالبسة، من الحطب، من النور، الخ. مقابل يوم عمله، فهذان الماركان يعبران اذن عن النسبة التي يتم بموجبها تبادل قوة العمل ببضائع اخرى، أي انهما يعبران عن القيمة التبادلية لقوة العمل. ان القيمة التبادلية لبضاعة معينة، مقدرة بالمال، انما هي بالضبط ما يسمونه سعرها فــالاجرة ليست اذن سوى الاسم الخاص الذي يطلق على ثمن قوة العمل المسمى عادة ثمن العمل، ليست اذن سوى الاسم الخاص الذي يطلق على ثمن هذه البضاعة الخاصة التي لا يوجد منها الا في لحم الانسان ودمــه.
لنأخد أول عامل نصادفه، حائكا مثلا. فالرأسمالي يقدم له النول والخيطان. ويشرع الحائك في العمل وتصبح الخيطان قماشا. ويأخد الرأسمالي القماش ويبيعه بعشرين ماركا مثلا. فهل اجرة الحائك، في هذه الحال،حصة من القماش، من العشرين ماركا، من منتوج عمله ؟ كلا. لقد تقاضى الحائك اجرته قبل ان يباع القماش بزمن طويل، بل ربما تقاضاها حتى قبل ان يصنع القماش بزمن طويل. فالرأسمالي لا يدفع اذن هذه الاجرة من المال الذي حصل عليه من القماش، انما يدفعها من المال المكدس لديه سلفا. وكما ان النول والخيطان ليست من نتاج الحائك، انما قدمها له الرأسمالي، فان البضائع التي يحصل عليها الحائك مقابل بضاعته، قوة العمل، ليست من نتاجه. وقد لا يجد الرأسمالي ابدا مشتريا لقماشه. وقد لا يحصل من بيع القماش حتى على المبلغ الذي صرفه لدفع الاجرة. وقد يبيع القماش بفائدة كبيرة جدا بالنسبة لاجرة الحائك ؛ غير ان كل هذه الاحتمالات لا علاقة لها ابدا بالحائك. فالرأسمالي يشتري بقسم من ثروته الحالية، من رأسماله، قوة عمل الحائك، بنفس الطريقة التي حصل بها بقسم آخر من ثروته على المادة الاولية – الخيطان، واداة العمل – النول. وبعد اجراء هذه المشتريات، ومن ضمنها قوة العمل الضرورية لانتاج القماش، يشرع في الانتاج بواسطة مواد اولية وادوات عمل تخصه وحده دون غيره. ومن ضمن هذه الادوات، بالطبع، اصبح الآن صاحبنا الحائك الذي ليس له، شأنه شأن النول، أي حصة في المنتوج او في ثمنه.
فالاجرة ليست اذن حصة العامل في البضاعة التي انتجها. ان الاجرة هي قسم من بضاعة موجودة سلفا يشتري به الرأسمالي كمية معينة من قوة عمل منتجه.
فقوة العمل اذن بضاعة يبيعها مالكها، الاجير من الرأسمالي. لماذا يبيعها ؟ ليعيش.
ولكن ظاهرة قوة العمل، أي العمل، انما هي النشاط الحيوي للعامل، انما هي ظاهرة حياته بالذات. وهذا النشاط الحيوي هو ما يبيعه من شخص آخر، لكي يؤمن لنفسه وسائل العيش الضرورية. وهكذا فان نشاطه الحيوي ليس، بالنسبة له، سوى وسيلة تمكنه من العيش. فهو يعمل ليعيش. والعمل، بنظره، ليس جزءا من حياته، انما هو بالاحرى تضحية بحياته. انه بضاعة باعها من شخص آخر. ولذا فان نتاج نشاطه ليس كذلك هدف نشاطه. فما ينتجه لنفسه، ليس الحرير الذي ينسج، وليس الذهب الذي يستخرج من المنجم، وليس القصر الذي يبني. ان ما ينتجه لنفسه، انما هو الاجرة، ويتحول الحرير والذهب والقصر بالنسبة له الى كمية معينة من وسائل العيش، وربما الى قميص من القطن، او الى بعض النقود النحاسية، او الى منزل في قبو البناية. والعامل الذي يحيك طوال 12 ساعة او يغزل او يثقب او يخرط او يبني او يحفر او يقطع الحجر او ينقل الاثقال الخ.، أتراه يعتبر هذه الساعات الـ12 من الحياكة او الغزل او الثقب او الخرط او البناء الو الحفر او تقطيع الحجر، ظاهرة من ظاهرات حياته، أتراه يعتبرها حياته ؟ بالعكس، ان الحياة تبدأ بالنسبة له حيث يكف هذا النشاط، عند المائدة، في الحانة، في النوم على السرير. اما ساعات العمل الـ12، فانها لا تعني اطلاقا بنظره الحياكة والغزل والثقب، الخ ؛ انما تعني كسب ما يمكنه من الاكل، والذهاب الى الحانة، والنوم. ولو كانت دودة الحرير تغزل لتأمين عيشها كدودة، لكانت اجيرا كاملا. ان قوة العمل لم تكن دائما بضاعة. والعمل لم يكن دائما عملا مأجورا، أي عملا حراً. فـالعبد لا يبيع قوة عمله من مالك العبيد، كما ان الثور لا يبيع عمله من الفلاح. فالعبد يباع، بما فيه قوة عمله، من مالكه، بيعا تاما. وهو بضاعة يمكن ان تنتقل من يد مالك الى د مالك آخر. فهو نفسه بضاعة، ولكن قوة عمله ليست مضاعته هو. والقن لا يبيع الا قسما من قوة عمله. وليس هو الذي يتقاضى اجرا من مالك الارض، انما هو بالاحرى الذي يدفع جزية لمالك الارض.
ان القن من لوازم الارض وريع مالك الارض. اما العامل الحر، فهو بالعكس يبيع نفسه بنفسه، وذلك بالتقسيط. فهو يتنازل هن 8، 10، 12، 15 ساعة من حياته عن طيق المزايدات، يوما بعد يوم آخر، لأسخى العارضين، لمالك المواد الاولية وادوات العمل ووسائل العيش، أي للرأسمالي. فالعامل لا يخص مالكا وليس من لوازم الارض، ولكن 8، 10، 12، 15 ساعة من حياته اليومية تخص من يشتريها. والعامل يترك الرأسمالي الذي استأجره، ساعة يطيب له، والرأسمالي يصرفه ساعة يشاء، حين لا يبتز منه أي ربح او حين لا يجد منه الربح المأمول ولكن العامل الذي مورده الوحيد انما هو بيع قوة عمله لا يستطيع ترك طبقة المشترين بكليتها أي الطبقة الرأسمالية، والا مات جوعا. انه لا يخص هذا الرأسمالي او ذاك، بل يخص طبقة الرأسماليين برمتها، وعليه ان يجد فيها صاحبه، أي ان يجد مشتريا في هذه الطبقة الرأسمالية.
وقبل التعمق في بحث العلاقات بين الرأسمال والعمل المأجور، سنتناول الآن بايجاز الظروف العامة التي تسهم في تحديد الاجرة.
ان الاجرة، كما رأينا، انما هي ثمن بضاعة معينة، قوة العمل. فالاجرة تحددها اذن القوانين ذاتها التي تحدد ثمن اية بضاعة اخرى. ولذا، فالسؤال الذي يوضع هو السؤال التالي : كيف يتحدد سعر البضاعة ؟
ما الذي يحدد سعر بضاعة ما ؟
انها المزاحمة بين المشترين والبائعين، النسبة بين العرض والطلب، بين الطلب وتلبيته. والمزاحمة التي تحدد سعر بضاعة ما ثلاثية.
البضاعة ذاتها يعرضها مختلف الباعة. فالذي يبيع بضائع من الصنف نفسه بارخص الاسعار واثق من ازاحة سائر الباعة من ميدان المعركة وتأمين اكبر تصريف لبضائعه. وهكذا فان الباعة يتنازعون بعضهم بعضا تصريف البضائع، السوق. كل منهم يريد ان يبيع، ان يبيع اكثر ما يمكن، ان يبيع وحده ان امكن، دون سائر الباعة. ولهذا، فان احدهم يبيع بارخص مما يبيع الآخر. فتقوم بالتالي مزاحمة بين الباعة تخفض سعر البضائع التي يعرضون.
ولكن تقوم ايضا مزاحمة بين المشترين ترفع، من جانبها، اسعار البضائع المعروضة.
واخيرا، توجد مزاحمة بين المشترين والباعة ؛ فالمشترون يريدون ان يشتروا بارخص الاسعار، والباعة يريدون ان يبيعوا باعلى الاسعار. اما نتيجة هذه المزاحمة بين المشترين والباعة، فتتوقف على النسبة بين الطرفين المتزاحمين المشار اليهما اعلاه، أي على الواقع التالي : اية مزاحمة ستكون الاقوى – المزاحمة في جيش المشترين ام المزاحمة في جيش الباعة. فالصناعة تعبىء جيشين متجابهين، وكل منهما انما تحتدم معركة في صفوفه، بين قواته بالذات. فالجيش الذي يكون التضارب في داخل صفوفه اقل، يحرز الغلبة على الجيش الخصم.
لنفترض ان في السوق 100 حزمة قطن، وان هناك ايضا في الوقت نفسه مشترين يبتغون شراء 1000 حزمة قطن. فالطلب في هذه الحال يوازي عشرة امثال العرض. ولذا فان المزاحمة بين المشترين ستكون قوية جداً، فكل منهم يريد ان يحصل على حزمة، وان امكن على المئة حزمة. ان هذا المثال ليس بالفرضية الاعتباطية. فلقد عشنا في تاريخ التجارة فترات ساء فيها موسم القطن وسعى فيها بعض الرأسماليين المتحالفين الى شراء، لا 100 حزمة، بل جميع مخزونات القطن في العالم. وهكذا، فان كلا من المشترين، في الحالة المعينة، سيسعى الى ازاحة مشتري آخر من السوق بعرضه سعرا اعلى نسبيا لحزمة القطن. اما باعة القطن الذين يرون قوات الجيش الخصم تخوض معركة حامية الوطيس بعضها ضد بعض، والذين تأكدوا اطلاقا من بيع احزمتهم المئة بكليتها، فانهم سيمتنعون عن التضارب والتماسك بالشعر لكي لا ينخفض سعر القطن في فترة يتنافس فيها اخصامهم على رفعه. واذا السلام يستتب فجأة في معسكر الباعة. انهم كرجل واحد ازاء المشترين، ويتكتفون كالفلاسفة8، وتكاد مطالبهم لا تعرف حداً لو ان عروض اولئك الذين اشد ما يلحون على الشراء لم تكن لها حدود معينة، بينة.
وهكذا، اذا كان عرض بضاعة ما اضعف من الطلب عليها، فليس ثمة اطلاقا او تقريبا اية مزاحمة بين الباعة. وبقدر ما تخف هذه المزاحمة تنمو المزاحمة بين المشترين. النتيجة : ارتفاع كبير الى هذا الحد او ذاك في اسعار البضائع.
ومعلوم ان الحالة المعاكسة مع نتيجتها المعاكسة اكثر حدوثاً : فائض كبير في العرض على الطلب ؛ مزاحمة عنيفة بين الباعة ؛ قلة في المشترين ؛ بيع البضائع باسعار بخسة.
ولكن ما معنى ارتفاع الاسعار وهبوط الاسعار، ما معنى السعر العالي والسعر الزهيد ؟ ان حبة الرمل كبير اذا رأيتها عبر مجهر، والبرج صغير بالقياس الى الجبل. واذا كان السعر انما تحدده النسبة بين العرض والطلب، فما الذي يحدد النسبة بين العرض والطلب ؟
لنسأل أي برجوازي نشاهده. فانه لن يتردد لحظة، وسيقطع بضربة واحدة كأنه الاسكندر ذو القرنين هذه العقدة الميتافيزيقية المعقدة بواسطة جدول الضرب وسيقول لنا : اذا كلفني انتاج البضاعة التي ابيعها 100 مارك، واذا بعت هذه البضاعة بـ110 ماركات – بعد سنة طبعا، - حصلت على ربح متواضع، شريف، ملائم. واذا بعتها بـ120، 130 ماركاً، حصلت على ربح عال ؛ واخيرا، اذا بعتها بـ200 مارك، حصلت على ربح استثنائي، هائل. فاي عامل يستخدمه البرجوازي اذن لقياس ربحه ؟ نفقات انتاج بضاعته. فاذا حصل مقابل هذه البضاعة على قدر من البضائع الاخرى كلف انتاجها اقل، فقد منى بخسارة. واذا حصل مقابل بضاعته على قدر من البضائع الاخرى كلف انتاجها اكثر، فقد حقق ربحاً. وهذا الهبوط او الارتفاع في الربح، انما يقيسه بعدد الدرجات التي تهبط بها القيمة التبادلية لبضاعته تحت الصفر او ترتفع فوق الصفر، باعتبار الصفر نفقات الانتاج.
لقد رأينا كيف ان تغير النسبة بين العرض والطلب يتسبب تارة بارتفاع الاسعار وطورا بهبوطها، ويؤدي تارة الى اسعار مرتفعة وطورا الى اسعار متدنبة.
فاذا ارتفع سعر بضاعة ارتفاعا كبيرا بسبب من عرض غير كاف او بسبب من طلب متزايد بلا حدود، فلا بد من ان سعر بضاعة اخرى قد هبط، بنسبة معينة، لان سعر بضاعة ما لا يفعل غير ان يعبر بالنقد عن النسبة التي تتم بموجبها مبادلة هذه البضاعة ببضائع اخرى. فاذا ارتفع سعر متر من الحرير من 5 ماركات الى 6 ماركات، فان سعر الفضة قد هبط بالنسبة للحرير، كما ان سعر جميع البضائع الاخرى التي ظات بسعرها السابق، قد هبط ايضا بالنسبة للحرير التي ظلت بسعرها السابق، قد هبط ايضا بالنسبة للحرير فللحصول على الكمية نفسها من الحرير، ينبغي الآن اعطاء كمية اكبر من البضائع مقابلها.
فاِلاَمَ يؤدي ارتفاع سعر بضاعة من البضائع ؟ ان الرساميل ستتدفق بالجملة على الفرع الصناعي المزدهر، وهذه الهجرة من الرساميل الى الفرع الصناعي الناجح تدوم ما دام الربح في هذا الفرع لا يهبط الى المستوى العادي او بالاحرى حتى الفترة التي تهبط فيها اسعار منتجاته، بسبب من فيض الانتاج، الى ما دون نفقات الانتاج. وبالعكس. اذا هبط سعر بضاعة من البضائع الى ما دون نفقات الانتاج، انسحبت الراساميل من انتاج هذه البضاعة. وباستثناء الحالة التي لا يستجيب فيها فرع صناعي معين لمتطلبات الزمن ولا يبقى له الا ان يزول، فان انتاج هذه الراساميل هذا الى ان يتناسب مع الطلب، فيرتفع بالتالي سعرها من جديد حتى يبلغ مستوى نفقات انتاجها او بالاحرى حتى يقل العرض عن الطلب، أي حتى يرتفع سعرها من جديد فوق نفقات انتاجها، لان السعر الجاري لبضاعة ما انما هو دائما ادنى او اعلى من نفقات انتاجها.
اننا نرى ان الراساميل في هجرة وتهجير بشكل دائم، متنقلة من فرع انتاجي الى فرع آخر. وان ارتفاع الاسعار وهبوطها يؤديان الى هجرة وتهجير شديدن جداً.
وبوسعنا ان نبين من وجهة نظر أخرى ان نفقات الانتاج لا تحدد العرض وحسب، بل الطلب ايضا. ولكن هذا الامر يبعدنا كثيرا عن موضوعنا.
لقد رأينا للتو ان تقلبات العرض والطلب تعيد دائما من جديد سعر بضاعة ما الى مستوى نفقات انتاجها. ان السعر الفعلي لبضاعة ما هو حقا دائما ادنى او اعلى من نفقات انتاجها، ولكن الارتفاع والهبوط يتكاملان، حتى اننا اذا جمعنا حصيلة المد والجزر في الصناعة، في حدود فترة معينة من الزمن، تبين لنا ان البضائع امنا تتم مبادلتها بعضها ببعض وفقا لنفقات انتاجها، أي ان نفقات انتاجها هي التي تحدد سعرها.
ان هذا التحديد للسع بنفقات الانتاج، لا يجب فهمه كما يفهمه الاقتصاديون. فالاقتصاديون يقولون ان السعر الوسطي للبضائع يوازي نفقات الانتاج ؛ وان ذلك في رأيهم هو القانون. وهم يعتبرون انها من قبيل الصدفة هذه الحركة الفوضوية التي يعوض بواسطتها ارتفاع السعر عن هبوطه، وهبوط السعر عن ارتفاعه. وعلى هذا الاساس، يكون بوسع المرء ان يعتبر بنفس القدر من الصواب ان تقلبات الاسعار هي القانون، وان تحديد الاسعار بنفقات الانتاج هو من باب الصدفة. وهذا ما يقول به بعض الاقتصاديين. ولكن الحقيقة هي ان هذه التقلبات التي تفضي، كما يتضح عند النظر فيها عن كثب، الى اشد التدميرات ارهابا، وتزعزع المجتمع البرجوازي حتى اسسه، اشبه بالزلازل الارضية، هي وحدها التي، بقدر ما تحدث، تحدد الاسعار بنفقات الانتاج. ان مجمل حركة هذه الفوضى هو نظامها بالذات. وفي غمار هذه الفوضى الصناعية، في غمار هذه الحركة الدائرة على نفسها، تعوض المزاحمة، اذا جاز القول، عن تطرف.
وهكذا نرى ان سعر بضاعة ما يتحدد بنفقات انتاجها بصورة نجد معها ان الفترات التي يرتفع فيها سعر هذه البضاعة فوق نفقات انتاجها تعوضها الفترات التي يهبط فيها دون نفقلت الانتاج، والعكس بالعكس. وطبيعي ان هذا القول لا يصح على كل من المنتجات بمفرده، انما يصح فقط على عموم الفرع الصناعي. وبالتالي فان هذا القول لا يصح ايضا على صناعي بمفرده، بل يصح فقط على عموم طبقة الصناعيين.
ان تحديد السعر بنفقات الانتاج مماثل لتحديد السعر بوقت العمل الضروري لانتاج بضاعة ما، لان نفقات الانتاج تتألف، أولا، من المواد الاولية واستهلاك الادوات، أي من منتجات صناعية كلف انتاجها قدرا معينا من ايام العمل، وتمثل بالتالي قدرا معينا من وقت العمل، وثانيا، من العمل المباشر الذي يقاس ايضا بالوقت.
وهذه القوانين العامة عينها التي تتحكم عامة بسعر البضائع، تتحكم ايضا طبعا بالاجرة، بسعر العمل.
ان اجرة العمل سترتفع تارة، وتنخفض طورا، تبعا للنسبة بين العرض والطلب، تبعا لحالة المزاحمة بين مشتري قوة العمل، الرأسماليين، وباعة قوة العمل، العمال. وتقلبات اسعار البضائع بصورة عامة انما تطابقها تقلبات الاجور. ولكن في حدود هذه التقلبات، يتحدد سعر العمل بنفقات الانتاج، بوقت العمل الضروري لانتاج هذه البضاعة التي هي قوة العمل.
ولكن اية نفقات انتاج قوة العمل ؟ انها النفقات الضرورية لابقاء العامل بوصفه عاملا ولجعله عاملا.
ولهذا، كلما قل ما يتطلبه عمل معين من الوقت لاجل التدريب المهني، قلت نفقات انتاج العامل، هبط سعر عمله، وهبطت اجرته. ففي الفروع الصناعية التي تكاد لا تتطلب أي تدريب مهني، والتي يكفي فيها مجرد وجود العامل ماديا، تكاد نفقات الانتاج الضرورية له تقتصر بوجه الحصر على البضائع الضرورية لاعاشته ولحفظ قدرته على العمل. ولهذا يتحدد سعر عمله في هذا الحال بسعر الوسائل الضرورية للعيش.
بيد ان اعتباراً آخر ينضم الى هذه الاعتبارات.
فان الصناعي الذي يحسب نفقات انتاجه وعلى اساسها سعر المنتجات، يدخل في حساباته استهلاك ادوات العمل. فاذا كلفته آلة ما 1000 مارك، مثلا، واذا كان سيستهلكها في عشر سنوات، فانه يضيف كل سنة 100 مارك على سعر البضاعة لكي يتمكن من الاستعاضة بعد عشر سنوات عن الالة البالية بآلة جديدة. وعلى النحو نفسه، ينبغي ان تشتمل نفقات انتاج قوة العمل البسيطة على نفقات التناسل الذي يتمكن جنس العمال بواسته من التكاثر ومن احلال العمال الجدد محل العمال المستهلكين. وهكذا يؤخذ استهلاك العمال في الحساب شأنه شأن استهلاك الآلة.
ان نفقات انتاج قوة العمل البسيطة تتألف اذن من نفقات معيشة وتناسل العامل. وسعر نفقات المعيشةوالتناسل هذه تشكل الاجرة. والاجرة المحددة على هذا النحو تسمى الحد الادنى للاجرة. مهذا الحد الادنى للاجرة، شأنه شأن تحديد سعر البضائع بنفقات الانتاج على وجه العموم، انما يصح على الجنس، لا على الفرد بمفرده، فهناك عمال، ملايين العمال لا يحصلون على ما يكفي للمعيشة والتناسل ؛ ولكن اجر الطبقة العاملة بأسرها يساوي هذا الحد الادنى، ضمن حدود تقلباتها.
والآن، وقد اوضحنا أعم القوانين التي تحدد الاجرة وكذلك سعر اية بضاعة اخرى، نستطع ان نتعمق اكثر في موضوعنا.
يتألف الرأسمال من مواد اولية وادوات عمل ووسائل معيشة مختلفة، تستخدم لانتاج مواد اولية جديدة وادوات عمل جديدة ووسائل معيشة جديدة. وكل هذه الاجزاء التي تؤلف الرأسمال انما هي من خُلق العمل من انتاج العمل، من العمل المكدس. فالعمل المكدس الذي يتخد وسيلة لانتاج جديد، هو رأسمال.