ثالثاً: علاقة المد بالمعنى:
يكاد لا يخلو كتاب من كتب التجويد والقراءات من تناول المدّ، والحديث عن أنواعه ومقدار المد فيها، وغير ذلك.
وقبل التعرض لعلاقة المدّ بالمعنى نبدأ بالوقوف على معنى المدّ كما ورد في كتب اللغة، عن ذلك يقول ابن فارس: ( الميم والدال أصل واحد يدل على جر في طول، واتصال شيء بشيء في استطالة. تقول مددت الشيء أمدّه مدّاً )[100]
ويذكر ابن منظور أن: ( لكل شيء دخل فيه مثله فكثره: مد يمده مدّاً، وفي التنزيل العزيز { والبحر يمدّه من بعد سبعة أبحر }[101] أي يزيد فيه ماء من خلفه تجره إليه وتكثره ) [102].
هذه الزيادة هي ما يسمّيه الزمخشري بالمطاولة والمماطلة حيث يقول: ( فلان يماد فلاناً: يطاوله ويماطله )[103].
فهذا المطل وهذا التطويل ما هو إلا زيادة في الشيء، ولذلك يقول الفيومي: ( ويقال للسيل مدّ لأنه زيادة، فكأنه تسمية بالمصدر، وجمعه مدود )[104].
والزيادة في الصوت هي زيادة زمنية في نطاق الصوت، ولهذا يقول الكفوي: ( سميت المدّة مدّة لأنها تمتد بحسب تلاصق أجزائها أو تعاقب أبعاضها، فالامتداد إنما يصحّ في حق الزمان والزمانيّات)[105].
ومن هذه التعريفات يمكن أن نخرج بمعنى المدّ في المفهوم اللغوي بأنه ما أفاد:
(الجذب، الكثرة، الطول، المطل، التوسّع، الإمهال، الارتفاع، اتصال الشيء في استطالة، الزيادة، التطاول، الانبساط)
ومن هنا نلحظ أن مصطلح المدّ قد امتد حتى شمل هذه المعاني جميعها.
معنى المد في اصطلاح القرّاء:
يعرّفه ابن الجزري بقوله: ( هو عبارة عن زيادة مطّ في حروف المدّ على المد الطبيعي، وهو الذي لا يقوم ذات حرف المدّ دونه )[106].
ويوضّح البغدادي أن هذه الزيادة زيادة زمنية في تفريقه بين المدّ والقصر حيث يقول: ( المدّ طول زمان الصوت والقصر الأصل )[107].
أقسام المد:
يقسم علماء التجويد المدّ إلى قسمين[108]:
أ- المد الطبيعي ( الأصلي ) ويمدّ حركتين.
ب-المد الفرعي: وهو على ستة أقسام:
1- المد الجائز المنفصل: وهو أن يأتي حرف المد في كلمة والهمز في كلمة ثانية، ويمدّ من أربع حركات إلى خمس.
2- المد الواجب المتصل: وهو أن يأتي حرف المد وبعده الهمز في نفس الكلمة، ويمدّ من أربعة إلى خمس حركات.
3- مد البدل: وهو أن يأتي حرف المد وقبله همزة ولا يوجد بعده همز ولا سكون مثل آدم ويمد حركتين.
4- المد العارض للسكون: وهو أن يأتي بعد حرف المدّ حرف متحرك حال الوصل وعند الوقف على الكلمة يسكن هذا الحرف ويمد من 2- 6 حركات.
5- مد اللين: وهو أن يأتي الواو والياء الساكنتان المفتوح ما قبلهما مع الوقف على الحرف الذي بعدهما ويجوز مدّه من 2-6 حركات.
6- المد اللازم: هو أن يأتي سكون أصلي ثابت في الوصل والوقف بعد حرف المدّ سواء أكان في كلمة أم في حرف. ويمدّ ست حركات.
العلاقة بين المدّ والمعنى:
سأحاول في هذا الجزء من البحث أن أتعرّض لثلاثة أنواع من المد هي: ( المد الواجب المتصل، والمد الجائز المنفصل، والمد اللازم )
1- المد الواجب المتصل:
قبل أن أعرض لشواهد المد الواجب المتصل، أذكر بأن المد الواجب المتصل يسمّى واجباً لإجماع القراء على وجوب مدّه، ومتصلاً لأن حرف المد والهمز واقعان في كلمة واحدة.
شواهد المد الواجب المتصل:
1- السماء:
مشتقّة من السمو وهو الارتفاع والعلو، قال الزجاج: ( السماء في اللغة يقال لكل ما ارتفع وعلا )[109] وهنا نذكر بأن الارتفاع هو أحد المعاني التي قد يعنيه المد.
المد في السماء متصل، فهل السماء في ذاتها ممتدة ؟ يقول الكفوي: ( كل أفق من الآفاق فهو سماء )[110] والأفق ممتد بل وما يزال يتمدد ويتسع، فقد اكتشف العلماء أخيراً أن كل المجرات تبتعد عنا بأسرع مما تبتعد به المجرات القريبة، وأن أسرع معدل للابتعاد حتى الآن أمكن قياسه 40.000 ميل في الثانية، إنهم يعلنون إذاً أن الكون يتسع ويتمدد ويقولون: ( إنه في اتساع دائم )[111] ويعللون لذلك بقولهم: ( لأن الخالق العظيم أراد أن يكون خلق المادة مستمراً، وهذا يدفع الكون إلى التمدد، لأن خلق المادة يؤدي إلى مطّ الفضاء مطّاً كالبالون، وهذا يؤدي إلى تباعد تجمّعات المجرّة بعضها عن بعض )[112] لقد أصبح تمدّد الكون واتساعه حقيقة علمية وأصبح يعدّ من أعظم الظواهر التي اكتشفها العلم الحديث، فهو كالبالونة التي تنفخ كل يوم نفخة فتتسع البالونة بقدر النفخ، إلى أن يأتي يوم ينفخ فيها نفخة واحدة فتنفجر البالونة، وينتهي كل شيء[113].
فالسماء في تمدد وزيادة واتساع، وتعال بنا نقرأ قول المولى عز وجل: ( والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون )[114].
من هنا يمكننا الربط بين تمدد السماء واتساعها، وهذا المد المتّصل في لفظها.
2- جزاء:
3- عطاء:
جاء في وصفه تعالى لما للمتقين من مفاز في سورة النبأ بأنه: ( جزاء من ربك عطاءً حساباً )[115] ونلحظ هنا مجيء لفظي( جزاء، عطاء ) ممدودين مدّاً متصلاً. فما وجه الدلالة في ذلك ؟
ورد في المعجم الوسيط: ( جزى جزاء: كفى وأغنى، وجازاه: أثابه وعاقبه )[116] وفي الكليات: ( جزاء: يقال في النافع والضار )[117] إذاً فلفظ الجزاء لفظ ممتد يشمل الشيء ونقيضه.
والعطاء قال فيه الكفوي: ( العطاء للغني والفقير والناس لا يحصون )[118] وقال تعالى: { كلّاً نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً }[119] فهو عطاء ممتد ليشمل المؤمن والكافر، الغني والفقير.
هذا من جانب، ومن جانب آخر وعند رؤيتنا للآية الكريمة من سورة النّبأ وتفسيرها عند المفسرين نجد الآتي:
يقول الرازي: ( عطاءً حساباً: أي بقدر ما وجب له فيما وعده من الأضعاف، لأنه تعالى قدر الجزاء على ثلاثة أوجه: وجه منها على عشرة أضعاف، ووجه على سبعمئة ضعف، ووجع على مالا نهاية له. وقال ابن قتيبة: ( عطاءً حساباً ) أي كثيراً وأحسبت فلاناً أي أكثرت له )[120].
وقال ابن عاشور: ( ووصف الجزاء بعطاء وهو اسم لما يعطى، أي يتفضل به بدون عوض للإشارة إلى أن ما جوزوا به أوفر مما عملوه، فكان ما ذكر للمتقين من المفاز وما فيه من جزاء شكراً لهم، وعطاء كرماً من الله تعالى، وكرامة لهذه الأمة إذ جعل ثوابها أضعافاً، وحساباً: اسم مصدر حسب يحسب إذا عد أشياء، فوقع ( حساباً ) صفة ( جزاء ) أي هو جزاء كثير مقدّر على أعمالهم والتنوين فيه للتكثير )[121].
إذاً فهو جزاء ممتد وعطاء كثير، ألا ترى إلى إيضاح ذلك في قوله تعالى: { وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاءً غير مجذوذ }[122]، فالعطاء هنا يفسر العطاء هناك: إنه عطاء غير مجذوذ. قال القرطبي: ( أي غير مقطوع )[123]، وقال الزمخشري: ( غير مقطوع، ولكنه ممتد إلى غير نهاية )[124]، وهذا هو رأي جمهور المفسّرين[125].
من هنا ندرك طبيعة العلاقة بين هذا المد المتصل في ( جزاء، وعطاء ) ومعنى اللفظين سواء أكانا منفردين أم داخل السياق القرآني.
4- جاء: أغلب المعاجم اللغوية تجمع على أن (جاء) بمعنى (أتى). فهل هما كذلك فعلاً ؟ لننظر في ذلك.
( جاء ) فعل ماضٍِ ممدود مداً متصلاً، و ( أتى ) فعل ماضٍ مقصور آخره ألف مقصورة. وكلاهما يفيد معنى الحضور، ولكن هل المجيء بما فيه من مد متصل يمكن أن يطلق على نفس الحدث الذي يدل عليه الفعل المقصور ( أتى ).
من خلال العلاقة التي نقرر وجودها بين المدّ والمعنى يمكننا القول بوجود فرق بين ( جاء وأتى ).
فجاء بما فيها من مدّ يمكن أن تطلق على حدث الحضور من مسافة ممتدّة، أو الحضور مع صعوبة ومشقّة يواجهها المرء في حضوره، أما أتى بما فيها من قصر فيمكن أن تطلق على حدث الحضور من مسافة قصيرة حضوراً ليس فيه مشقّة ولا تعب.
ألا ترى معي إلى قول الله تعالى: { وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى }[126].
قال القرطبي: ( ومنزله عند أقصى باب من أبواب المدينة )[127]، وقال الآلوسي: ( وجاء من أقصى المدينة أي من أبعد مواضعها )[128].
وكذلك عندما بعث فرعون في المدائن حاشرين ليأتوه بكل سحّار عليم: { فلمّا جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين }[129]. لقد كان مجيئهم من المدائن البعيدة فهو مجيء من مسافة ممتدة.
أما أتى فانظر معي إلى هذه الآية: { فتولّى فرعون فجمع كيده ثم أتى }[130]، إن هذه الآية الواحدة القصيرة تحكي حدوث ثلاثة حركات متواليات: ذهاب فرعون وتوليه، وجمع الكيد، والإتيان به.
والإتيان كان من قصر فرعون إلى المكان المتفق عليه وهو ميدان الاحتفال بالعيد، وفي ضوء ما ذكره ابن عاشور من أن قلب المدينة هو مسكن حكامها، إذ المعتاد أنهم يسكنون وسط المدينة[131].
في ضوء هذا نعتقد أن المسافة بين قصر فرعون وميدان الاحتفال مسافة قصيرة ليست بالممتدة لذلك جاء فعل ( أتى ) المقصور.
ثم للنظر إلى قوله تعالى: { أتى أمر الله فلا تستعجلوه }[132]، وأمر الله قريب ألا ترى إلى قوله تعالى: { إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً }[133].
من هنا أيضاً ندرك مدى العلاقة التي تربط نوع المدّ بالمعنى، وهذا واضح لمن تأمّله.
5- الملائكة:
المد فيها واجب متصل، والملائكة كما جاء وصفهم في القرآن الكريم ذوو أجنحة متزايدة، قال تعالى: { الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير}[134]
قال الزمخشري: ( والمعنى أن الملائكة خلقاً أجنحتهم اثنان اثنان أي لكل واحد منهم جناحان، وخلقاً أجنحتهم ثلاثة ثلاثة، وخلقاً أجنحتهم أربعة أربعة )[135].
وقال ابن عاشور: ( وذلك قد تتعدد صفوفه فتبلغ أعداداً كثيرة )[136].
ثم لنلحظ قوله تعالى: { يزيد في الخلق ما يشاء }، قال القرطبي: ( أي في خلق الملائكة في قول أكثر المفسّرين )[137].
إذاً فالله سبحانه وتعالى يزيد في خلق الملائكة ما يشاء، أي يمدّهم في الخلق، لأن المدّ هو الزيادة.
ثم للنظر في وصف بعض الملائكة كما ورد في الأحاديث الصحيحة، فقد ورد في صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام له ستمئة جناح. وعن الزهري أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم : (( يا محمد لو رأيت إسرافيل إن له لاثني عشر ألف جناح، منها جناح بالمشرق وجناح بالمغرب.... الحديث ))[138]. فأي امتداد هذا. والأحاديث كثيرة في هذا الباب، نكتفي بما أوردناه لنصل إلى إيضاح علاقة هذا المد المتصل في لفظ ( الملائكة ) بهذه المعاني المتّصلة بذات الملائكة.
2- المد الجائز المنفصل:
سُمّي جائزاً لاختلاف القراء في مدّه – كما سبق – فبعضهم يمدّ وبعضهم لا يمدّ، وسُمّي منفصلاً لأن حرف المد في كلمة والهمز في كلمة أخرى.
كما يطلق عليه مد البسط، لأنه يبسط بين كلمتين. ويقال: مدّ الاعتبار لاعتبار الكلمتين من كلمة، ويقال: مدّ حرف لحرف أي مدّ كلمة لكمة.
شواهد المد الجائز المنفصل:
1- يقول الله تعالى على لسان نبيّه هود عليه السلام: { ويا قوم استغفروا ربّكم ثم توبوا إليه }[139]
المدّ في: ( توبوا إليه ) إنه أمر بالتوبة، فهل جميع الناس تتوب ؟
إن بعضاً منهم يتوب، وبعضاً لا يتوب، وكذلك المدّ بعضهم يمدّ وبعضهم لا يمدّ، كما أنه مدّ منفصل، وهذا واضح أيضاً فالتوبة لكي تنفع صاحبها لابدّ من أن تقبل، فالتوبة من العبد والقبول من الله.
فإذا لم يوجد القبول فلن يتحقق الغرض من التوبة، كذلك المدّ فحرف المدّ في كلمة والهمز في أخرى، ولو لم يوجد الهمز لما تحقّق المدّ.
2- قال تعالى: { قولٌ معروفٌ ومغفرةٌ خيرٌ من صدقةٍ يتبعها أذى }[140]
المدّ في: ( يتبعها أذى ).
والسؤال هنا: هل كل صدقة يتبعها أذى ؟ الإجابة بالتأكيد: لا. فهناك صدقات يتبعها أذى وهناك صدقات لا يتبعها أذى إذاً فالمسألة مختلف فيها كما هو الحال في المد الجائز.
قال القرطبي: ( والمراد الصدقة التي يمنّ بها ويُؤذى، لا غيرها، والعقيدة أن السيئات لا تبطل الحسنات ولا تحبطها، فالمن والأذى في صدقة لا يبطل صدقة غيرها )[141]
ثم إن الحكم الذي تقرّره الآية من أن قول المعروف والمغفرة خير من الصدقة لا يكون إلا في حالة وجود الأذى بعدها. وكذلك هو المدّ لا يكون في الحرف إلا إذا أتبعه همز، فإذا لم يتبعه همز فلا يتحقق المد، وتلك كذلك فالصدقة إذا لم يتبعها أذى خير من قول معروف ومغفرة، والله أعلم.
3- قال تعالى: { وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم.... الآية }[142]
المد في: ( تسترضعوا أولادكم ).
قال القرطبي: ( أي لأولادكم غير الوالدة، قاله الزجاج، وقال النحاس: التقدير في العربية: أن تسترضعوا أجنبية لأولادكم )[143]. وجاء في التحرير والتنوير: ( أي إن أردتم أن تطلبوا الإرضاع لأولادكم في إثم في ذلك، والاسترضاع أصله طلب إرضاع الطفل، أي طلب أن ترضع الطفل غير أمه، فالسين والتاء في تسترضعوا للطلب ومفعوله محذوف، وأصله أن تسترضعوا مراضع لأولادكم، لأن الفعل يُعدّى بالسين والتاء – الدالين على الطلب – إلى المفعول المطلوب منه الفعل فلا يتعدّى إلا إلى مفعول واحد وما بعده يُعدّى إليه بالحرف )[144]. فلماذا حذف الحرف إذاً ؟ وما السر وراء حذف اللام من السياق ليتحوّل الأمر إلى مد جائز منفصل ( تسترضعوا أولادكم ) بدلاً من ( تسترضعوا لأولادكم ) ؟ هل هناك ارتباط بين هذا المد وبين دلالة الآية ومعناها ؟
للإجابة عن هذا التساؤل نحتاج إلى العودة إلى فهم معنى الآية والموضوع الذي تتحدث عنه.
إنها تتحدّث عن إرضاع الأولاد من قبل غير والدته في حالة تعذّر على الوالدة إرضاعه لمرضها أو تزوّجها أو إن أبت ذلك حيث يجوز لها الإباء، قال القرطبي: ( وعلى هذا يكون في الآية دليل على جواز اتخاذ الظئر إذا اتفق الآباء والأمهات على ذلك )[145] إذاً فالحكم هو الجواز فق دلّ قوله تعالى على أنه ليس المراد تشريع وجوب الإرضاع على الأمهات، بل المقصود تحديد واجبات المرضع على الأب، وأما إرضاع الأمهات لأولادهن فموكول إلى ما تعارفه الناس، والأصل في العرف أن الأم يلزمها رضاع ولدها، إلا أن مالكاً رحمه الله دون فقهاء الأمصار استثنى المرأة ذات الحسب، فقال: لا يلزمها رضاعة، فأخرجها من الآية وخصّصها بأصل من أصول الفقه وهو العمل بالعادة [146].
ومن هنا نجد أنه وانطلاقاً من المد الجائز المنفصل الموجود في الآية ما يلي:
1- يجوز للأم أن ترضع ولدها، ويجوز لها أن تأبى إرضاعه.
2- في حال انفصال الوالدين عن بعضهما، فيجوز أن ترضع الأم ولدها مقابل أجر معلوم، ويجوز أن يتخذ للولد مرضع وهذا على الأب. قال الزمخشري: ( وعليه أن يتّخذ له ظئراً إلّا إذا تطوّعت الأم بإرضاعه، وهي مندوبة إلى ذلك ولا تجبر عليه )[147]
3- اختلف الفقهاء في مسألة جواز استئجار الأم لإرضاع ولدها، فعند أبي حنيفة رحمه الله لا يجوز استئجار الأم ما دامت زوجة أو معتدّة من نكاح، وعند الشافعي يجوز.
إذا نجد من خلال ما سبق علاقة وثيقة بين المعنى وحكم المد الجائز المنفصل، فكما أنه يجوز للقارئ أن يمد، فكذلك يجوز للأب أن يسترضع مرضعاً ليمد لولده فترة الرضاعة ليستوفي حولين كاملين إن أراد أن يتمّ الرضاعة. والله أعلى وأعلم.
4- المد اللازم:
ويتحقق إذا وقع بعد حرف المدّ ساكن، وسُمّي لازماً للزوم مدّه: ليصل بالمدّة إلى اللفظ بالساكن.
من شوهد المدّ اللازم:
أ- قول الله سبحانه وتعالى لأم موسى: { إنا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين }[148]
هذه الآية فيها وعد من الله عز وجل لأم موسى أنه سيردّ إليها ولدها موسى عليه السلام بعد أن تلقيه في اليم، ونهاها عن الخوف والحزن، والجملة في موقع العلّة للنهيين، لأن ضمان ردّه إليها يقتضي أنه لا يهلك وأنها لا تشتاق إليه بطول الغياب[149] فكان لزاماً تحقق الوعد وإيفائه، لأنه وعد من الله ووعد الله حق، وقد كان ذلك { فرددناه إلى أمّه كي تقرّ عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حقٌّ ولكنّ أكثرهم لا يعلمون }[150]، فالمدّ اللازم، وإيفاء الوعد لازم، وتحقق الردّ لازم، وهذه هي العلاقة بين نوع المدّ والمعنى واضحة جليّة.
ب-قول المولى عز وجل: { ولا يضارّ كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوقٌ بكم }[151]
في الآية نهي عن المضارّة، وفيها قراءتان ( يضارِرْ، يضارَرَ )[152] فتكون مع الإدغام والتشديد محتملة لأن تكون مبنيّة للفاعل أو مبنيّة للفاعل أو مبنيّة للمفعول. فعلى المعنى الأول يكون النهي للكاتب والشاهد عن ترك الشهادة، وترك الإجابة إلى ما يطلب منهما، وعن التحريف والزيادة والنقصان. وعلى الثاني النهي عن الإضرار بهما بأن يعجلا عن مهم أو لا يعطى الكاتب حقّه، أو يحمل الشاهد مئونة المجيء من بلد إلى بلد[153].
إذا أصبح عدم الإضرار بالكاتب والشاهد أو منهما لازماً، لأنه لو حدث ذلك فهو فسوق وعصيان فناسب هذا المعنى هذا المدّ اللازم في هذه الكلمة.
ت-الطّامّة – الصّاخّة – الحاقّة:
الطّامّة: هي الحادثة أو الواقعة التي تطمّ، أي تعلو وتغلب بمعنى تفوق أمثالها من نوعها بحيث يقل مثلها من نوعها، مأخوذ من طمّ الماء إذا غمر الأشياء. وهذا الوصف يؤذن بالشدّة والهول إذ لا يقال مثله إلّا في الأمور المهولة، والقيامة تطمّ على كل شيء، وتُسمّى الداهية التي لا يستطاع دفعها: طامّة[154].
والصّاخّة: صيحة شديدة من صيحات الإنسان تصخّ الأسماع أي تصمّها [155].
الحاقّة: اسم فاعل من حقّ الشيء يحقّ إذا كان صحيح الوجوب، ومنه حقّت كلمة العذاب والمراد به القيامة والبعث، وقال ابن عباس سُمّيت القيامة حاقّة، لأنها تبدي حقائق الأشياء.[156]
وهذه الكلمات عبارة عن أسماء ليوم القيامة، ويوم القيامة آت لا محالة ولا ريب ولا شك فيه، فهو لازم الوقوع، والآيات الدّالّة على ذلك كثيرة.
وأغلب ظنّي أن هذا المدّ اللازم يوحي بلزوم تحقّق معنى الآية الواردة فيها، وهذا ظاهر من جميع الآيات التي تتحدث عن وقوع الساعة.
يقول ابن عاشور في حديثه عن الحاقّة: ( وإيثار هذه المادّة وهذه الصيغة يسمح باندراج معانٍ صالحة بهذا المقام فيكون ذلك من الإيجاز البديع لتذهب نفوس السامعين كل مذهب ممكن من مذاهب الهول والتخويف بما يحقّ حلوله بهم )[157]
هذه إشارات في علاقة المدّ بالمعنى، وأن المعنى يأتي ليضيف على النص إيحاء لم يكن ليظهر لو لم يوجد المد.
والكلام هنا أطول من هذا، لكن هذا مفاده طلباً للإيجاز.
فهذا ونحوه – مما سبق – أمر إذا أنت أتيته من بابه، وأصلحت فكرك لتناوله وتأمّله أعطاك مقادته وأركبك ذروته، وجلا عليك بهجاته ومحاسنه، وإن أنت تناكرته، وقلت: هذا مذهب صعب موعر، حرمت نفسك لذّته، وسددت عليها باب الحظوة به.
وقد ذكرنا في الإبانة عنه وجيزاً من القول رجونا أن يكفي، وأملنا أن يقنع، والذي سطّرناه وإن كان موجزاً، وما أمليناه فيه وإن كان خفيفاً، فإنّه ينبّه على الطريقة ويدلّ على الوجهة ويهدي إلى الحجّة.
ومتى عظم محل الشيء فقد يكون الإسهاب فيه غيّاً، والإكثار في وصفه تقصيراً.
والله الموفّق إلى سواء السبيل ,,,,
هذا البحث قدم إلى مؤتمر كلية الشريعة السابع المنعقد بجامعة الزرقاء الأهلية – الأردن في الفترة 23-25 / آب 2005م