رغم احترامي التام غير المنقوص للغة العربية وإقراري بحتمية تعلم اللغة العربية والحديث بها والكتابة بها ورغم إقراري بفرضية هذا فرض عين على كل عاقل بالغ قادر فإن وصف اللهجة العامية (( بالإسفاف )) جانبه الكثير من التوفيق
ولست هنا لأدلل على هذا أو ذاك وإنما الواقع يقول أنك لو حدثت الملايين بحديث بعيد عن فهمهم فأنت في واد والناس في واد آخر وليس هناك فارق كبير بين أن تحدثهم بلغة أجنبية وبين أن تحدثهم بألفاظ تحتاج إلى مترجم
ورغم أن اللهجة العامية (( وليست اللغة العامية )) تحمل بين طياتها الكثير من الخلافات مع اللغة الأم إلا أنها وسيلة الحديث بين الناس وليس ذنب البشر أنهم ولدوا بلسان لا يعرفون غيره وليس بمقدرتهم التعلم ومطلوب منا أن نبلغهم مراد ربهم بلسانهم (( فما بعث نبي إلا بلسان قومه )) ورغم أن القرآن هو المهيمن والمسيطر على ماسبقه من الكتب وينسخها جميعا إلا أن هذا لا ينكر حقيقة أن الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل والزبور كلها نزلت بالعبرانية وهذا ليس ببحث تفاضل في اللغات فاللغات ما هي إلا وسيلة للتعامل بين الشعوب لتيسير الفهم وتقريبه
ولو بحثنا في لغة العرب قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم بمائة عام أو مائتي عام لوجدت فيها اختلافا عن المستعمل وقتها بل إنك لو بحثت في لهجات العرب وقت البعثة ذاتها لوجدت اختلافا في اللهجات ويعلم الباحثون في القراءات أن هذا كان من أكبر أسباب تعدد القراءة فيسهل فهم القرءان فإن كان القرءان قد اختلف لفظه رغم وحدة المعنى في بعض الروايات وهذا من إعجاز القرءان نفسه فليس المقصود هو جمود اللغة وإنما اللغة ولهجة التعامل تتطور لتناسب احتياجات الناس.
حتى الإسلام نفسه في بداياته جاء بألفاظ لم تكن معروفة أو مستخدمة قبل الإسلام وكم رأينا من الأحاديث من الصحابة يستفسرون من النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض المعاني وهم أهل اللغة وأهل صناعتها
إنما أقف فقط أمام لفظ (( الإسفاف )) فإن كان في المعنى فنناقش ولكن إن كان في وسيلة التعبير بأي لغة فاسمح لي أخي العزيز أن أختلف معك ورغم الكلام الصريح الذي رويته عن الإمام العظيم ابن تيمية إلا أن هذا لا ينطبق على ذلك فمن قال إن دراسة العربية تتنافى مع معرفة اللهجات العامية؟
فأين حديث النبي صلى الله عليه وسلم : من علم لغة قوم أمن مكرهم ولو كان حرصنا فقط وفقط على دراسة العربية دون غيرها فنحن بالفعل سنتجمد مكاننا ولن نتمكن من الدعوة ولن نتمكن من مجادلة غيرنا بالحجة ولن ولن ولن ولن وعدد لن حتى تكتفي أنت.
كذلك أخي العزيز فهناك من طرق التعبير الكثير التي نحاول بها أن نتصل بالآخرين ومنها مثلا الرسم وقد استعمله النبي صلى الله عليه وسلم لتوضيح بعض المعاني مثل حديث السبل الشهير عندما خط خطا ثم خط خطوطا حوله على الأرض ثم قال ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله
وهناك الشعر وليس هناك معنى أن أحدث الناس بما لا يفهموه ورغم أنني من انصار كتابة الشعر العمودي وبالفصحى إلا أنني لا أنكر على شعراء العامية أو الشعر المنثور طالما يتبعون القواعد ويلتزمون الجاد والمفيد من المعاني ولا يتجاوزون
وهناك القصص والحكايات التي من ورائها الحكمة والتي يسهل بها تعليم أبنائنا وكم من قصص (بالفتح) نقرأه في القرءان وكم من حديث من النبي صلى الله عليه وسلم وكم من مثل ضرب لنا سواء كان افتراضيا أو عمليا لتقريب الفهم وكلها من وسائل التعبير
فهناك العديد من الوسائل وربما ما يتناسب مع زمن لا يتناسب مع آخر وأذكر أنني مرة قرأت قصيدة لأحد الشعراء يصف إحساس بقرة فقدت وليدها في الجاهلية فلم أفهم من الكلمات سوى حروف الجر رغم أنها بالعربية لكن مفرداتها لم تعد موجودة واختفت من الاستعمال
ورغم علم السابقين بالعربية إلا أن فهمهم للقرءان وحديث النبي كان بتفسير النبي نفسه لذلك وعمله به وهو المنهج الأبلغ والأصح في التفسير كما يقول علماء التفسير وليس مجرد تحدثي بالعربية يضمن لي أن أفهم أو أتأول حديث القرءان
بارك الله فيك أخي العزيز ونفعنا بعلمك لكنني ما زلت أختلف معك بشأن الوصف الأول (( الإسفاف )) وأرى أن هذا في غير محله رغم عدم تأييدي للشعر العامي أو حتى تسميته شعرا وأسميه كما سماه بعض النقاد والكتاب (( زجلا ))
_________________
أبـوروان