الخيمة تقوم عادة على عمود واحد في مركزها، وهي عرضة لأن تتهاوى عن آخرها عندما يكسر هذا العمود، والخيمة تعتبر مسكنًا بدائيًا، نسبة للأبنية الحديثة والأبراج العالية، التي تعتمد على عدد كبير من الأعمدة، وكلما كان البناء حديثًا وعاليًا فإنه يحتاج إلى أعمدة أكبر، وهذا البناء يمكن أن يبقى قائمًا حتى ولو انكسر فيه أحد هذه الأعمدة.
وحياة الناس تتطابق كثيرًا هذا المثال، فهناك من تقوم حياتهم على شيء واحد، وتنحصر ضمن نطاق محدد جدًا، فيكونون بذلك أشخاصًا أحاديِّي البُعد، وهم معرّضون لعملية هدم كلية، فيما إذا تزعزع هذا البعد، أو تعرّض لتغيير.
وآخرون يعيشون حياة منوعة غنية، لها جوانب مختلفة، وهؤلاء يعتمدون على تعدد الأبعاد في حياتهم، ولن تتهدم حياتهم كليّا بسبب فقدان أحد هذه الأبعاد، وسيبقون محافظين على توازنهم ريثما يستدركون الخلل الذي حدث.
أحادية البعد تعني التمركز في الحياة حول شيء واحد فقط، والعيش في نطاق محدد جدًا، والاعتماد على مصدر واحد للحياة المعنوية والمادية، أحادية البعد والمركزية والقطبية في الحياة، كلها لها نفس الدلالة، يعني أن تملك شخصية بدائية مثل الخيمة.
هناك مثل انكليزي طريف يقول: "العاقل لا يضع كل البيض في سلة واحدة". لأنه إذا ما وقعت هذه السلة فسوف يتكسر كل البيض، وكذلك نحن ينبغي أن نستثمر جهودنا وطاقتنا في أكثر من مكان في الحياة؛ لأن هذا أدعى للسلامة.
يقول الأديب ممدوح عدوان، في كتابه "جنون آخر"، مجسدًا فكرة تعدد الأبعاد بوضوح كبير: (أنا أستغرب استغراب الناس من تعدد الميادين التي أكتب فيها، هناك كتاب لم يكتبوا إلا في فن واحد، ولكنْ هناك كتّاب مارسوا أكثر من فن وبكفاءة عالية، كتبوا المسرح والشعر والرواية ومارسوا العمل الصحفي، وهذا كله قد فعلته...).
فالإنسان الذي لا يجيد في الحياة سوى القيام بواجبات وظيفته في العمل، هو إنسان أحادي البعد، بينما متعدد الأبعاد يملك الفضول تجاه الأشياء حوله، والرغبة في تجريب أمور مختلفة، ولديه المهارة ليقوم بأعمال أخرى لا تخص بالضرورة عمله الرئيسي، كأن يعرف كيف يصلح بعض الأعطال في المنزل، ولديه اطلاع يمكّنه من مزاولة عمل آخر يكسبه عيشه فيما لو فقد عمله الحالي.
فالحكمة تقول: "اعرف كل شيء عن شيء، وشيء عن كل شيء".
فعندما تكون الوظيفة هي البعد الوحيد في حياة الموظف، فإن التقاعد سيعني النهاية له، وكلما تقدم في السن ستتقلص أبعاد حياته، إلى أن ينتهي بالعجز.
في سوق المهن اليدوية كان جميع من صادفتهم يشتركون بأنهم قد ورثوا مهنتهم أبًا عن جد، إلا رجلاً واحدًا كان في الخمسين من العمر، ينسج سجادًا شرقيًا مميزًا، وكان فخورًا بطريقته الفريدة التي تميزه عن البقية، ومن خلال الحديث، اكتشفت أنه كان موظفًا ثم اختار التقاعد المبكر، وبعدها جاء إلى هذا السوق وبدأ العمل، لم يكن يتقن هذه الحرفة قبل، لكنه كان مولعًا بالرسم والعمل اليدوي منذ شبابه، ويعتبر أن هذا ما جعله يتقن فن النسيج في زمن قياسي.
من الضروري أن نهتم بالتنوع في حياتنا كلها، التنوع في علاقاتنا الاجتماعية، وفي ميولنا وهواياتنا، وحتى في نوعية الكتب التي نطالعها.
في كتابه "الشيخوخة " يقول الدكتور محمد سعيد الحفار: (كلما حاول الشيوخ زيادة هواياتهم وارتباطاتهم، وعدم قصرها على فرد أو هواية وما شابه، كانت مصيبتهم بالحرمان من الشخص أو الهواية أقل ضررًا وأذًى على نفوسهم).
وهذا تمامًا ما التزم به اللواء المتقاعد بدر الدين رمضان، وما جعله يصمد أمام فقدانه لزوجته وابنته الشابة، فهو يبلغ من العمر الآن 81 عامًا، وإلى الآن يمارس الرياضة صباحًا، ويحب المشي، فلا يستعمل سيارته إلا نادرًا، ويعتمد على التنوع في غذائه، ويعتمد على نفسه في شئونه اليومية، ويشعر أنه يحاكي حفيديه الشابين اللذين قام بتربيتهما، وحين تقاعد منذ عشرين عامًا تقريبًا، كان لديه رغبة في تأسيس ورشة لتصليح السيارات، لأن لديه خبرة بذلك من خلال عمله في مجال الآليات العسكرية، والمشروع الآخر كان تأسيس مزرعة للعناية بالنباتات،وهو الذي نفذه فعلاً، وعمل لعدة سنوات مع ثلاثة من أصدقائه في تلك المزرعة، إلى جانب كل ذلك فهو يتقن ست لغات، وترجم عددًا كبيرًا من الكتب من اللغة الفرنسية والروسية والانكليزية إلى العربية، وآخر إنجاز كبير حققه، كان إصداره قاموسًا بثلاث لغات: عربي - انكليزي – شركسي، يحوي 12 ألف كلمة، ويطمح إلى توسيعه ليشمل20 ألف كلمة في طبعات لاحقة.
في إحدى القِصص التي كتبتها، تناولت امرأة كانت تمتهن المحاماة، ولديها ميول أدبية أيضًا، تعيش حياة غنية بالنشاط والإنتاج، إلا أنها عندما فقدت ابنتها توقفت عن الكتابة ومزاولة المحاماة، لكنها عندما وصلت إلى حافة الانفصال عن زوجها، شعرت أن العمود الوحيد والأخير الذي يرفع الخيمة سيتهاوى، تقول تلك المرأة عن هذه المرحلة (كنت قد صممت حياتي على ألا تكون أحادية البعد، الغريب أني كنت أعيش حياة ذات أبعاد متعددة والآن أصحو من نوبة حزن وسواد لأجد نفسي معدومة الأبعاد) فقررت أن تعود إلى حياتها السابقة، فتقول: (الكتابة والمحاماة لولاهما لفقدت توازني حتمًا، إنهما كالعكازين أتوكأ عليهما رغم كل الإنهاك، فالاستناد على عكازين أكرم بكثير من الحبو على الأرض).
كنت أحمل معي الأوراق، حيث حلَلت وحتى إلى المكتب، لأستعيد علاقتي بها، كما أستعيد علاقتي بالمحاماة وبالحياة كلها).
فالشخصية الثرية هي التي تحصن نفسها ضد الإفلاس، وتعيش شَغوفة بكل جديد، تهوى السفر والتعرف على أماكن جديدة، وأشخاص جدد، وشعوب أخرى، إنها شخصية تثيرها الحياة، وتهتم بكل ما يجري حولها، لديها الاندفاع لتخوض تجارب جديدة، الناس متعددو الأبعاد يرفضون أن تكون الحياة مساحة ضيقة مطلية بلون واحد عاتم وكئيب، يعرفون أن الحياة لوحة ملونة تتناغم فيها كل ألوان الطيف.
نقله ابو عبد الله