كيف تتأثر بالقرآن
بسم الله الرحمن الرحيم ..
أحسب أن هذه المعني الرائعة والمؤثرة ما جاءت إلا نتيجة تجربة شخصية
ذاق حلاوتها الشيخ فنقلها لينتفع بها المسلمون في كل عصر
بل إني على يقين أن كثيرين انتفعوا بها ، وكانت بالنسبة لهم تجربة فريدة
تستحق التسجيل ..
فاقرأ بعناية وتأمل واجهد أن تفاعل مع ما تقرأ وانظر النتيجة الجميلة
= =
هذه عشر خطوات تساعد على تدبر القرآن ، وتجعل القارئ يتأثر به ،
ويتفاعل مع قراءته وتلاوته له ...
وهي من كلام الغزالي رحمه الله في الإحياء ، وفيها تنبيهات مهمة ورائعة ومفيدة
* * *
تحصيل لذة التلاوة وقراءة القرآن :
اعلم أن هذه اللذة لن تحصل إلا بتوافر عشرة آداب عند تلاوة القرآن الكريم هي:
فهم أصل الكلام. ثم التعظيم، ثم حضور القلب.
ثم التدبر. ثم التفهم، ثم التخلي عن موانع الفهم،
ثم التخصيص، ثم التأثر، ثم الترقي، ثم التبري ..
= =
فالأول: فهم عظمة الكلام وعلوه.. .
الثاني: التعظيم للمتكلم..
فالقارئ عند البداية بتلاوة القرآن ، ينبغي أن يحضر في قلبه عظمة المتكلم
ويعلم أن ما يقرؤه ليس من كلام البشر ،
فتعظيم الكلام تعظيم المتكلم ،
ولن تحضره عظمة المتكلم ما لم يتفكر في صفاته وجلاله وأفعاله،
فإذا حضر بباله العرش واستواء ربه عليه، والكرسي الذي وسع السموات والأرض،
واستحضر مشهد السموات والأرض وما بينهما من الجن والإنس والدواب والأشجار،
وعَلِمَ أن الخالق لجميعها والقادر عليها والرازق لها واحد،
وأن الكل في قبضة قدرته مترددون بين فضله ورحمته وبين نِقمته وسَطوته،
إن أنعم فبفضله وإن عاقب فبعدله، وأنه الذي يقول هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي،
وهؤلاء إلى النار ولا أبالي وهذا غاية العظمة والتعالي،
فبالتفكر في أمثال هذا يحضر تعظيم المتكلم ثم تعظيم الكلام.
* *
الثالث: حضور القلب وترك حديث النفس:
قيل في تفسير: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} أي بجد واجتهاد،
وأخذه بالجد أن يكون متجردًا له عند قراءته منصرف الهمة إليه عن غيره،
وقيل لبعضهم: إذا قرأت القرآن تحدّثُ نفسك بشيء؟
فقال: أو شيء أحبُّ إلي من القرآن حتى أحدث به نفسي!
وكان بعض السلف إذا قرأ آية لم يكن قلبه فيها أعادها ثانية.
وهذه الصفة تتولد عما قبلها من التعظيم، فإن المعظم للكلام الذي يتلوه يستبشر به
ويستأنس ولا يغفل عنه .
* *
الرابع: التدبر
وهو وراء حضور القلب فإنه قد لا يتفكر في غير القرآن
ولكنه يقتصر على سماع القرآن من نفسه وهو لا يتدبره والمقصود من القراءة التدبر،
ولذلك سُنَّ الترتيل في الظاهر ليتمكن من التدبر بالباطن،
قال علي رضي الله عنه :
لا خير في عبادة لا فقه فيها ولا في قراءة لا تدبر فيها.
وإذا لم يتمكن من التدبر إلا بترديد فليردد إلا أن يكون خلف إمام،
فإنه لو بقي في تدبر آية وقد اشتغل الإمام بآية أخرى كان مسيئًا ،
مثل من يشتغل بالتعجب من كلمة واحدة ممن يناجيه عن فهم بقية كلامه،
وكذلك إن كان في تسبيح الركوع وهو متفكر في آية قراها أمامُه فهذا وسواس.
فقد روي عن عامر بن عبد قيس أنه قال:
الوساس يعتريني في الصلاة، فقيل: في أمر الدنيا؟
فقال: لأن تختلف في الأسِنَّة أحب إليّ من ذلك، ولكن يشتغل قلبي بموقفي
بين يدي ربي عز وجل، وإني كيف أنصرف، فعدّ ذلك وسواسًا وهو كذلك،
فإنه يشغله عن فهم ما هو فيه، والشيطان لا يقدر على مثله إلا بأن يشغله بمهمِّ ديني،
ولكن يمنعه به عن الأفضل.
وعن أبي ذر قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بنا ليلة فقام بآية يرددها
وهي: إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم..} الآية
وقام تميم الداري ليلة بهذه الآية: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات…} الآية،
وقام سعيد بن جبير ليلة يردد هذه الآية: {وامتازوا اليوم أيها المجرمون}
وقال بعضهم: إني لأفتح السورة فيوقفني بعضُ ما أشهد فيها عن الفراغ منها حتى يطلع الفجر،
وكان بعضهم يقول: آية لا أتفهمها ولا يكون قلبي فيها لا أعدّ لها ثوابًا،
وحُكي عن أبي سليمان الداراني أنه قال: إني لأتلو الآية فأقيم فيها أربع ليال
أو خمس ليال ولولا أني أقطع الفكر فيها ما جوزتها إلى غيرها،
وعن بعض السلف أنه بقي في سورة هود ستة أشهر يكررها، ولا يفرغ من التدبر فيها،
وقال بعضهم: لي في كل جمعة ختمة وفي كل شهر ختمة وفي كل سنة ختمة
ولي ختمة منذ ثلاثين سنة ما فرغت منها بعد، وذلك بحسب درجات تدبره وتفتيشه،
وكان هذا أيضًا يقول:
أقمت نفسي مقام الأجراء فأنا أعمل مياومةً ومجامعةً ومشاهرةً ومسانهةً .
[أي بأجر كل يوم وكل جمعة وكل شهر وكل سنة، يشير إلى ختماته في تلك الأزمنة.]
* *
الخامس: التفهم:
وهو أن يستوضح من كل آية ما يليق بها،
إذ القرآن يشتمل على ذكر صفات الله عز وجل، وذكر أفعاله،
وذكر أحوال الأنبياء عليهم السلام، وذكر أحوال المكذبين لهم وأنهم كيف أهلكوا،
وذكر أوامره وزواجره،
وذكر الجنة والنار.
أما صفات الله عز وجل فكقوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}
وكقوله تعالى: {الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر}
فليتأمل معاني هذه الأسماء والصفات لينكشف له أسرارها،
فتحتها معان مدفونة لا تنكشف إلا للمُوفَّقين:
وإليه أشار علي رضي الله عنه بقوله لما سئل:
هل عندكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء سوى القرآن؟
فقال: لا والذي خلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يعطي الله عبدًا فهمًا في كتابه،
وأما أفعاله تعالى فكذكره خلق السموات والأرض وغيرها،
فليفهم التالي منها صفات الله عز وجل وجلاله إذ الفعل يدل على الفاعل فتدل على عظمته،
وأما أحوال الأنبياء عليهم السلام، فإذا سمع منها كيف كُذّبوا وضُربوا وقُتل بعضهم.
فليفهم منه صفة الاستغناء لله عز وجل عن الرسل والمرسل إليهم
وأنه لو أهلك جميعهم لم يؤثر في ملكه شيء،
وإذا سمع نصرتهم في آخر الأمر فليفهم قدرة الله عز وجل وإرادته لنصرة الحق،
وأما أحوال المكذبين، كعاد وثمود وما جرى عليهم فليكن فهمه منه استشعار الخوف
من سطوته ونقمته وليكن حظه منه الاعتبار في نفسه
وأنه إن غفل وأساء الأدب واغتر بما أُمهل فربما تدركُه النقمة وتنفُذ فيه القضية،
وكذلك إذا سمع وصف الجنة والنار وسائر ما في القرآن،
فلا يمكن استقصاء ما يفهم منه لأن ذلك لا نهاية له وإنما لكل عبد بقدر رزقه،
{قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددًا}.
فالغرض مما ذكرناه التنبيه على طريق التفهيم لينفتح بابه
فأما الاستقصاء فلا مطمع فيه،
ومن لم يكن له فهم ما في القرآن ولو في أدنى الدرجات دخل في قوله تعالى:
{ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفًا
أولئك الذين طبع الله على قلوبهم}
والطابع هي الموانع التي سنذكرها في موانع الفهم.
* *
السادس: التخلي عن موانع الفهم،
فإن أكثر الناس منعوا عن فهم معاني القرآن لأسباب وحُجُب أسدلها الشيطان على قلوبهم
فعميت عليهم عجائب أسرار القرآن، وحُجُب الفهم ثلاثة:
أولها: أن يكون الهم منصرفًا إلى تحقيق الحروف بإخراجها من مخارجها،
وهذا يتولى حفظه شيطان وكل بالقراء ليصرفهم عن فهم معاني كلام الله عز وجل
فلا يزال يحملهم على ترديد الحرف يخيل إليهم أنه لم يخرج من مخرجه،
فهذا يكون تأمله مقصورًا على مخارج الحروف فأنى تنكشف له المعاني؟
وأعظم ضحكة للشيطان ممن كان مطيعًا لمثل هذا التلبيس.
ثانيها: أن يكون مقلدًا لمذهب سمعه بالتقليد وجمد عليه
وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة،
فهذا شخص قيَّده معتقدُه عن أن يتجاوزه فلا يمكنه أن يخطر بباله غير معتقده
فصار نظره موقوفًا على مسموعه،
فإن لمع برق على بُعد وبدا له معنى من المعاني التي تباين مسموعه حمل عليه شيطان التقليد
حملة وقال كيف يخطر هذا ببالك وهو خلاف معتقد آبائك،
فيرى أن ذلك غرور من الشيطان فيتباعد منه ويتحرز عن مثله،
ومثله من يقرأ قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى}
وما يحتويه معنى الآية من علو الله عز وجل على كل مخلوقاته وهيمنته
وتصرفه في كل الموجودات فيجيئه تقليد المعتقدات الموروثة
في وجوب تنزيه الله عن الجهة فيُحرم من تجليات تأمل صفة العلو والاستواء
وهي من الصفات التي تكررت في القرآن بغرض التنبيه على جلال الله وعظمته
وحقيقة علوه على خلقه.
ثالثها: أن يكون مصرًا على ذنب أو متصفًا بكبر
أو مبتلى في الجملة بهوى في الدنيا مطاع فإن ذلك سبب ظلمة القلب وصدئه،
وهو كالخبث على المرآة وهو أعظم حجابٍ للقلب وبه حُجب الأكثرون.
وكلما كانت الشهوات أشد تراكمًا كانت معاني الكلام أشد احتجابًا
وكلما خف عن القلب أثقال الدنيا قرُبَ تجلي المعنى فيه.
فالقلب مثل المرآة والشهوات مثل الصدأ ومعاني القرآن مثل الصور التي تتراءى في المرآة.
والرياضة للقلب بإماطة الشهوات مثل تصقيل الجلاء للمرآة،
وقد شرط الله عز وجل الإنابة في الفهم والتذكير
فقال تعالى: {تبصرة وذكرى لكل عبد منيب}
وقال عز وجل: {وما يتذكر إلا من ينيب}
وقال تعالى: {إنما يتذكر أولوا الألباب}
فالذي آثر غرور الدنيا على نعيم الآخرة فليس من ذوي الألباب
ولذلك لا تنكشف له أسرار الكتاب .