اللا معقـــــول في غــــــزة
بقلم: فهمـي هـويـــدي
(1)
الحاصل في غزة يندرج بامتياز تحت اللامعقول, وذلك امر سييء لا ريب, لكن الأسوأ منه أن نعتاد عليه, ونكف عن الدهشة لحدوثه, حتي نعتبره امرا معقولا.
زارتني في الأسبوع الماضي صحفية أمريكية متعاطفة مع القضية الفلسطينية, وألقت علي السؤال التالي: لماذا وكيف سكت العالم العربي علي حصار مليون ونصف مليون فلسطيني في غزة لأكثر من عام, برغم علمهم بأن ذلك من شأنه أن يدمر حياتهم, ويعرضهم للموت البطيء؟ ـ وقبل أن اجيب استطردت قائلة إن الصمت العربي علي الحصار, الذي هو جريمة حرب وإبادة مقنعة, يصدمها ويحيرها منذ عدة أشهر, ولذلك قررت أن تقوم بجولة في العالم العربي بمناسبة مرور سنة علي فرضه, لكي تبحث عن اجابة للسؤال.
وافقتها علي الفكرة الاساسية التي تطرحها, وقلت إن العالم العربي ليس شيئا واحدا, ولم يكن كله ساكتا. والقراءة المنصفة له تقتضي التفرقة بين الأنظمة والشعوب, ثم إن درجة الممانعة امام الضغوط الغربية مختلفة فيه من بلد إلي آخر. وفي غيبة الممانعة المنشودة فان تلك الضغوط اصبح لها تأثيرها القوي في المنطقة العربية, وكان ذلك واضحا حين قرر وزراء الخارجية العرب كسر الحصار في شهر سبتمبر عام2006, ثم اصدر وزراء خارجية الدول الإسلامية قرارا مماثلا بعد شهر واحد, لكن الذين اصدروا القرارين عجزوا عن تنفيذهما بسبب الضغوط الغربية, والأمريكية منها بوجه اخص.
ما قلته ايضا ان ذلك القرار الوحشي الذي ارادت به القيادة الإسرائيلية خنق القطاع علي مرأي ومسمع من الجميع ألفه الناس بمضي الوقت, حتي لم يعد يستفزهم حرمان فلسطينيي غزة من الغذاء والدواء والوقود ولا اصبح يوجعهم موت أكثر من200 شخص بسبب نقص الدواء ولا احتشاد المرضي وذوي الحاجات امام المعابر.
اخبرتني صاحبتنا الأمريكية في النهاية بأنها لم تقتنع بكلامي, وعلقت بأربع كلمات هي: انه شيء مروع ولايصدق!
(2)
ليس هذا هو اللامعقول الوحيد في المشهد الفلسطيني, لانك حيثما وليت وجهك في جنباته وجدت نماذج اخري مماثلة. خذ مثلا حكاية التفاوض والمصالحة التي باتت حلالا بين الفلسطينيين والإسرائيليين وحراما علي الفلسطينيين والفلسطينيين. ذلك انه مباح ومطلوب ان يتفاوض الرئيس أبومازن مع الحكومة الإسرائيلية حول القضايا العالقة, ومطلوب ايضا ان يستمر التفاوض حتي إذا لم يحقق شيئا ـ حتي الآن علي الأقل والمستفيد في كل ذلك هو الإسرائيليون, لأنهم يحققون بذلك ثلاثة أهداف هي: انهم يقومون بتخدير العالم الخارجي حيث يوهمونه بأن محادثات التسوية مستمرة.
الهدف الثاني أنهم خلال المفاوضات يبتزون الفلسطينيين ويحاولون الحصول علي أكبر قدر من التنازلات منهم. اما الهدف الثالث فهو انهم في الوقت الذي يخدرون فيه الجميع ويتفاوضون, يواصلون بأقصي ما يستطيعون التوسع في الاستيطان وتغيير الحقائق علي الأرض بحيث يصبح تحقيق حلم الدولة الفلسطينية مستحيلا.
كما ان التفاوض مباح ومطلوب, كذلك التهدئة في قطاع غزة التي لم تحقق شيئا يذكر للفلسطينيين المحاصرين حتي الآن, لأن إذلالهم استمر لكن بدرجة اخري, وما يقال عن فتح المعابر وتيسير دخول مستلزمات الحياة الإنسانية لم يغير شيئا من جوهر الحصار, لأنه من بين تسعة آلاف سلعة كان يتم استيرادها سمحت إسرائيل بدخول تسع منها فقط!
لا مبالغة في هذا الكلام لأن مصلحة إسرائيل في التهدئة محققة, في حين أن مصلحة الفلسطينيين مشكوك فيها إلي حد كبير. إذ من خلالها فان إسرائيل تضرب أربعة عصافير بحجر واحد. فهي تريد ان تطلق سراح جنديها الأسير جلعاد شاليط, وهي تريد أن توقف إطلاق الصواريخ التي سببت إزعاجا مستمرا لسكان بلدة سيدروت وسكان جنوب إسرائيل. تريد ايضا ان تعمق الانقسام بين رام الله وغزة, لان التهدئة مع غزة ستمكن إسرائيل من الاستفراد بالضفة وتدمير بنية المقاومة فيها.
من ناحية رابعة فان التهدئة تمكن إسرائيل من التفرغ وهي مطمئنة للتعامل مع المشروع النووي الإيراني, الذي تصر علي أن تجد له حلا حاسما قبل نهاية ولاية الرئيس بوش في آخر هذا العام.
(3)
الحرام ان يتصالح الفلسطينيون والفلسطينيون. آية ذلك ان كثيرين تفاءلوا أخيرا حين تحدث الرئيس أبومازن عن تلك المصالحة بين فتح وحماس في الرابع من شهر يونيو الماضي.
صحيح أن الاجتهادات تعددت في تفسير اطلاقه للدعوة, وربط البعض بينها وبين شعوره بالإحباط إزاء الموقفين الأمريكي والإسرائيلي, إلا أن الحفاوة بالمصالحة غطت علي دوافعها. هذا التفاؤل اخذ يتراجع بمضي الوقت, حين لاحت في الأفق سحابات معتمة كادت تحجب تردداتها. فمن ناحية زارت المنطقة بعد كلام أبومازن السيدة كوندواليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية, تحمل معها ضغوطاتها المعهودة, ومن ناحية ثانية بدأت بعض الاصوات المحيطة برئيس السلطة تتحدث عن شروط للقاء, مستعيرة خطاب ما قبل مبادرة أبومازن.
وكان واضحا ان هناك اطرافا غير مرحبة بالمصالحة, وبدأنا ندخل في مرحلة التسويف في العملية, عن طريق الحديث عن ضرورة الالتزام بمبادرة صنعاء التي كان أبومازن قد اقنع بها القيادة اليمنية يوما مافتبنتها, وكان البند الأول فيها يدعو إلي إعادة كل الأوضاع في غزة إلي ماكانت عليه قبل حسم الوضع هناك في منتصف يونيو2007, في مقابل ذلك كانت قيادة حماس تتحدث عن اتفاق صنعاء الذي كان البند الأول فيه ينص علي ان يتباحث الطرفان حول كيفية تنفيذ المبادرة, والفرق بين الاثنين هو ان المبادرة كانت تدعو حماس للتسليم والانصراف بلا تفاهم, في حين أن الاتفاق الذي وقعه ممثل أبومازن يدعو إلي التفاهم حول الموضوع.
وإلي جانب اللغط المثار حول المبادرة أو الاتفاق اثير لغط آخر هو رعاية المصالحة, وهل تكون تحت مظلة الجامعة العربية أم تحت الرعاية المصرية, وقام أبومازن بجولة عربية ذات صلة بالموضوع, وحين مر بدمشق فإنه التقي مع ممثلي الفصائل الفلسطينية هناك وفوجئنا بأنه قاطع السيد خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس التي هي الطرف الاساسي المفترض في المصالحة, وحتي يكتمل المشهد العبثي فان ابومازن بعد أن رفض لقاء مشعل في دمشق سافر إلي باريس لكي يلتقي أولمرت هناك!
بعد مرور نحو شهر ونصف الشهر علي كلام المصالحة, فانها لم تتقدم خطوة إلي الامام, وإنما تراجعت كثيرا إلي الوراء. ولم تستمر حيرتنا طويلا لان السيد عمرو موسي الأمين العام لجامعة الدول العربية فضح السر, وقال صراحة إن هناك فيتو يرفض المصالحة بين فتح وحماس. وكان ذلك في اثناء انعقاد مؤتمر دولي حول الأمن في الأراضي المحتلة, الذي عقد في برلين يوم24 يونيو الماضي, وبرغم أنه لم يذكر الجهة صاحبة الفيتو إلا أن الأمر لم يكن بحاجة إلي إفصاح.
(4)
لاتتوقف الغرائب والعجائب غير القابلة للتصديق في غزة. فلا أحد يتصور مثلا ان هناك أكثر من70 ألف موظف حكومي يقعدون في بيوتهم بلا عمل منذ أكثر من عام في حين يقبضون رواتبهم شهريا أكثر من50 مليون دولار. وهؤلاء هم الموظفون الذين استجابوا لدعوة حكومة رام الله مقاطعة الحكومة المقالة في غزة جميعهم من اعضاء فتح لان الاغلبية الساحقة من الموظفين ورجال الأمن اعضاء في الحركة ومن الناحية العملية فان الجهاز الحكومي في القطاع يعمل بـ43 ألف موظف يتلقون رواتبهم من دوائرهم.
ومن الواضح ان سلاح قطع الرواتب كان ولايزال احد اسلحة الضغط التي تمارسها رام الله ضد غزة.
وحتي الآن فانه كل من يثبت بحقه ـ أو يبلغ ضده ـ انه تعامل مع حكومة القطاع يقطع راتبه,
وقد قيل لي إن مسئولي القطاع حاولوا عبر الوسطاء استثناء قطاعي التعليم والصحة من حملة المقاطعة. لكن هذا الطلب رفض, الأمر الذي أدي إلي اضعاف الخدمات التي يقدمها القطاعان. وكانت النتيجة مثلا ان قطاع الصحة اصبح غير قادر علي تشغيل سيارات الاسعاف بسبب عدم توافر النفط جراء الحصار الإسرائيلي, كما ان المستشفيات اصبحت غير قادرة علي تقديم خدماتها للمرضي بسبب مقاطعة بعض الاطباء واطقم التمريض التي دعت إليها حكومة رام الله.
من المفارقات ذات الدلالة ايضا انه بعد اسبوع من اطلاق أبومازن دعوته للمصالحة مع حماس, فان حكومة رام الله قطعت رواتب600 شخص في غزة بسبب الشك في انتمائهم لحماس.
أما الأكثر غرابة من كل ما سبق فهو ان ذلك الصراع الذي لم يتوقف, بدأ يحدث تأثيره علي النسيج الاجتماعي للاسر والعلائلات في القطاع. ذلك ان بعض المواطنين ذوي العلاقة مع الحكومة بدأوا في تجنب الاتصال بجماعة حماس حتي لا تساء سمعتهم السياسية في رام الله وتقطع رواتبهم.
في الأسبوع الماضي مر بالقاهرة الدكتور باسم نعيم وزير الصحة في الحكومة المقالة, وقال لي إنه ذهب لكي يقوم بواجب التعزية في استشهاد احد المقاومين وفوجئ بان ابن عمه رفض ان يصافحه حتي لاينقل عنه ذلك. وفي مناسبة ثانية كان ذاهبا التعزية آخر وفي الطريق صادف قريبا له, فتوقف لتحيته لكن الرجل ابدي حرجا في مصافحته, واخبره انه ذاهب إلي التعزية ذاتها فاصطحبه معه ثم انزله في مكان قريب من مكان التعزية حتي لايدخل الاثنان معا ويقطع راتب الرجل لهذا السبب, وحين تحريت الأمر من آخرين قيل لي إن إعلاميا يعمل بالإذاعة منذ12 عاما قطع راتبه لانه زوج ابنته من عضو في حماس, وان بعض العائلات قطعت علاقاتها مع جيرانها لذات السبب, حيث كفوا عن مشاركتهم في افراحهم واحزانهم حتي تستمر في تلقي رواتب ابنائها من رام الله, بعدما اصبحت المصافحة تهمة, والظهور في الصور مع أحد اعضاء حماس دليلا دامغا علي خيانة فتح يسوغ قطع الأرزاق. اما الظهور مع الإسرائيليين في الصور فقد غدا عملا وطنيا مشروعا وسعيا مقبولا لإقرار السلام ـ صدق أو لا تصدق.