علم الجغرافيا قصة لها دلالتها
كان ملك صقلية المسيحي روجرز الثاني يريد أن ينهض ببلاده لكي تلحق بالعالم الإسلامي وفي سنة 1144م استدعى من الأندلس بعض علماء المسلمين لكي يساعدوه في بناء نهضة عمرانية وعلمية حديثة . وكان بين هؤلاء عالم الجغرافيا والرحالة الإسلامي الإدريسي. فطلب الملك منه أن يعكف على عمل خريطة حديثة للعالم كله يضع فيها كل ما استكشفه من رحلاته وما علمه من زياراته الشخصية بحيث تكون عملا فريدا لم يسبقه إليه أحد . " وقد قسم الإدريسي العالم إلى سبعة أقاليم وكل إقليم قسمه عشرة أقسام ، فصنع بذلك سبعين خريطة وقد قدر الباحثون مساحة هذه الخرائط في مجموعها مترين وعرضها متر .
وكما تعود علماء المسلمين لم يعتمد الإدريسي في مصادره على الآراء النظرية بل على تجاربه الشخصية ورحلاته في أنحاء العالم أولا وما لم يشاهده بنفسه اعتمد فيه على الرحالة المسلمين والمشاهدين الثقاة وكان يختبر المسافات على خرائطه ويطبقها بنفسه ، وبعد
أن تم الرسم التفصيلي لكل إقليم جمع العالم كله في خريطتين :
الأولى : على كرة كبيرة من الفضة : وهذه أول مرة(1) في التاريخ تظهر خريطة العالم على شكل كرة مجسمة .
الثانية : رسمة بالألوان في كتابه تبين الأرض أيضا كروية وخطوط العرض والطول فيها مقوسة .
وكانت الكرة الأرضية الإدريسية كما وصفها الإدريسي بنفسه(2) " عظيمة الجرم ضخمة الجسم في وزن أربع مائة رطل بالرومي كل رطل مائة واثنا عشر درهما عربيا " واحضر الإدريسي مجموعة من نقاش الفضة من صناع الأندلس وأمرهم أن يحفروا الخريطة على الكرة الفضية .. وقد جاء في المراجع العربية وصف للطريقة التي اتبعها "فظهر فيها البلدان بأقطارها ومدنها وريفها وخلجانها ومجاري مياهها ومواقع أنهارها وبحارها وما بين كل بلد منها من الطرقات المطروقة والأميال الممدودة والمسافات المشهودة وكان نقش الخريطة بالألوان وقد طعمت بالعاج على تفصيل ما يخرجه لهم ممثلا في لوح الترسيم فلم يغادروا شيئا إلا سجلوه كما رسمه لهم وكان الملك وهو على فراش الموت يتعجل رؤيتها كل يوم قبل وفاته وعندما تمت الرسمة احتاج الإدريسي إلى عدة عمال لكي يحملوها إلى الملك الذي فرح بها كثيرا وأمر بوضعها في قاعة العرش وطلب من الإدريسي أن يقيم في بلاده وكافأه بالذهب " .
فهذه القصة تدلنا على ثلاثة حقائق هامة :-
( أولا ) النهضة الجغرافية في العالم الإسلامي .
( ثانيا ) إن علماء المسلمين اعتمدوا في خرائطهم على مبدأ التجربة والمشاهدة في حين كان علماء أوروبا يرسمون الخرائط بشكل نظري مستوحى من الإنجيل والتوراة .
( ثالثا ) أنهم أول من رسم خريطة العالم بشكل مجسم وعلى كرة .
تطور الجغرافيا عند المسلمين
من طبيعة العربي البدوي حب الترحال والتنقل وقد اشتهر عن شعراء الجاهلية وصف الأماكن التي يقيمون فيها أو يرحلون إليها بجبالها ووديانها ومائها واطلالها وقد كان لهذا الاستعداد الفطري تأثير كبير على تطور علم الجغرافيا عند المسلمين ، ثم جاء عصر الفتوح الإسلامية .. وأخذت جيوش المسلمين تغزو الأرض شرقا وغربا وشمالا وجنوبا حتى وصلوا إلى الصين في الشرق واحتلوا ولاية كشغر من أقاليم غرب الصين ووصلوا إلى الأندلس في المغرب ومن الأندلس وصلت جيوشهم إلى (فربونة) في فرنسا جنوب باريس وكان أكثر الخلفاء يطلب من قادته أن يصفوا له البلاد المفتوحة حتى يعرفها كمن رآها .. ومن أول من فعل ذلك عمر بن الخطاب حين طلب من قائده عمرو بن العاص أن يصف له مصر فبعث إليه بخطاب مشهور يصف فيه جغرافية مصر ونيلها ومدنها وشعبها .. ويذكر ابن الأثير أنه عندما غزا قتيبة بن مسلم مدينة بخاري سنة 718 م ( أي يرسم خارطتها وما حولها ) ويرسل صورتها إليه .. ثم جمع الخليفة وزراءه ومنهم الحجاج بن يوسف الذي أشار بخطه الفتح بناء على الرسم وبذلك نجح قتيبة في فتحها ، وكان اقتناء الخرائط الملونة إحدى هوايات الخلفاء والقادة المسلمين .. ومما يروى في ذلك أن الخليفة الفاطمي المعز لدين الله (952-975م) استدعى فريقا من علماء الجغرافيا المسلمين وأمرهم أن يرسموا له خريطة كبيرة للعالم لكي يحلى بها جدران قصره بالقاهرة .. وقد وصف المقريزي هذه الخريطة فقال أنه "تكلفت اثنين وعشرين ألف درهم(3) وهي عبارة عن مقطع كبير من الحرير الأزرق غريب الصنعة منسوج بالذهب وسائر ألوان الحرير فيه صورة أقاليم الأرض وجبالها وبحارها ومدنها وأنهارها ومسالكها وفيه صورة مكة والمدينة ، وقد كتبت كل مدينة وجبل وبلد ونهر وطريق اسمه بالذهب أو الفضة " وكانت هذه الخريطة تشغل مساحة الحائط في ايوان الخليفة.
__________________