على خلفية ما عرضناه من تفاصيل تنامى النهوض المصرى فى عهد محمد على، وقوة دوره فى تحريك الأحداث فى مشهد حافل بالانتصارات المصرية، يقف إبراهيم باشا بطلاً ظاهراً للعيان، بعد أن صار طموحه العسكرى والسياسى والعروبى مصدر إزعاج لأوروبا وحلفائها، على هذه الخلفية دار حوار يترجم هذه الطموحات المصرية والمطامع الغربية، فقد صار إبراهيم باشا فى نهاية مطاف زحفه على قيد فراسخ قليلة من الدولة العثمانية المريضة، ورأى أن مصر التى صارت قوية آنذاك، أحرى وأجدر بوراثة الدور العثمانى، وأولى بوراثة تركة الرجل المريض، فواصل إبراهيم باشا زحفه، غير أن والده، محمد على باشا، كان ضد هذا الطموح،
أما إبراهيم الذى كان يدين بكامل الولاء إلى أبيه، فكان حزيناً لقرار والده وتمنى لو واصل الزحف، وفى هذا أوفدت أوروبا إلى محمد على، البارون (بوالكونت) الفرنسى لحمله على إيقاف ابنه عن الزحف وطالبته بالاكتفاء بما حققه من انتصارات كبرى، وعدم مواصلة الزحف إلى إسطنبول، ودار هذا الحوار التاريخى بين البارون الفرنسى وإبراهيم باشا ١٨٣٣، بادر إبراهيم باشا البارون قائلاً: «إنه يؤلمنى أن الدول منعتنى من متابعة الزحف».
ورد عليه البارون: «أظن أنه قد آن الأوان الذى يحق فيه للدول أن تفكر فى وقف سموكم عن الزحف، فإنه لم يكن أمامكم سوى خطوات حتى تشب الثورة فى إسطنبول».
إبراهيم: لقد كنت شديد الرغبة فى دخول إسطنبول.
البارون: وماذا كنتم صانعين بها؟
إبراهيم: ما كنت أدخلها للهدم بل للإصلاح، ولكى أقيم حكومة صالحة مؤلفة من رجال أكفاء بدل الحكومة الحالية العاجزة عن الاضطلاع بأمور الإمبراطورية.
البارون: إن سموكم يؤيد بحديثه هذا المخاوف التى ألمحت إليها فى كلامى، فإن ما كنتم تنوون إحداثه، هو ما كنا نعمل على منعه، لا لأننا مسوقون بفكرة عدائية ضد سموكم أو أبيكم، ولكن الانقلاب الذى كنتم عازمين على إحداثه فى الأستانة يفضى إلى مشاكل قد تشعل نار الحروب فى أوروبا بأسرها.
إبراهيم: إنك واهم فميا تظن، فإن هذا الانقلاب كان سيحدث دون أى مقاومة، لأن الناس على جانبى البسفور والدردنيل يطلبوننى لإحداث هذا الانقلاب، الذى كان سيتم فى هدوء وسرعة، دون أن تجدوا الوقت للشعور به، إننى أتساءل لماذا تحقد الدول الأوروبية كل هذا الحقد على الأمم الإسلامية؟
غير أن الكونت كان له انطباع آخر عن إبراهيم باشا وعلاقته بوالده ومقارنته به يقول فيها: «إن إبراهيم لم تكن تتوفر فيه القدرة على تأسيس الممالك، مثلما كانت تتوفر لأبيه، ولكن عنده ـ أى إبراهيم ـ من المواهب ما يكفل بقاء هذه الممالك، وأن أساس قوة الدولة المصرية، هو الارتباط المتين بين محمد على وابنه إبراهيم، الذى حافظ على عظيم احترامه وإجلاله لأبيه، ولم يداخله أى زهو وخيلاء ولم تتغير علاقته بأبيه بعد كل الانتصارات العظيمة التى حققها، لدرجة أنه لم يكن يسمح لنفسه بأن يدخن فى حضرته، ومهما يكن من أمر هذا الحوار فإنه بعد ٦ سنوات منه انتصر الجيش المصرى فى عام ١٨٣٩، على الجيش العثمانى فى موقعة نزيب،
وفى ١٨٤٨ اجتمع الديوان بحضور العلماء والمشايخ وأشراف البلد، ومن لزم حضوره من الذوات بديوان الغورى، وقرئ على رؤوس الأشهاد على مصر الفرمان القاضى بتعيين إبراهيم باشا والياً على مصر فى حياة أبيه محمد على باشا، الذى اعتزل الحكم بعد أن صار طاعناً فى السن، ولم تمض سبعة أشهر وثلاثة عشر يوماً على توليه، حتى لقى إبراهيم ربه ١٥ نوفمبر عام ١٨٤٨، وعمره لا يتجاوز الستين عاماً، ليلحق به أبوه محمد على باشا بعد أقل من عام.