تأملات فى فقه المقاطعة
يخطئ من يظن أن الجهاد نوع واحد وهو القتال في سبيل الله تعالى– وإن كان القتال في سبيل الله أفضل الجهاد وأعلاه- فالجهاد أنواع متعددة، منها الجهاد بالمال، والجهاد بالنصرة، والجهاد بالتحريض والدعوة، ومنها مانحن بصدده وهو الجهاد بالمقاطعة.
والمقاطعة مفهوم شامل لجميع المناحي السياسية والاقتصادية والثقافية، وهي موجهة لكل عدو؛ وفي كل زمن مواجهة، كما أنها سلاح فاعل إذا استخدم بمنهجية منضبطة.
وإذا كانت بعض أنواع الجهاد– كالقتال في سبيل الله، والتحريض، والمقاطعة السياسية- قد تصعب في هذا الزمان لاعتبارات عدة داخلية وخارجية، فإن المقاطعة الاقتصادية أمر متيسر؛ ويمكن حتى أن يكون جهادا فرديا يقوم به الفرد وحده، ويؤجر عليه عند الله سبحانه وتعالى.
والمقاطعة الاقتصادية جهاد لا يحتاج إلى إمام أو راية أو دولة داعمة، فهي يمكن أن تغدو عملا ذاتيا لا يطلع عليه أحد، ولا ينكر على المقاطع للعدو الكافر- إجمالا- إلا منافق.
وحتى لو لم تحقق المقاطعة أهدافها وإثخانها في العدو فإنها تبقى- في بعض صورها- عملا جهاديا قد يصل في حالات معينة إلى درجة الوجوب.
لكن ليُعلم أن المقاطعة أنواع ودرجات يجب فقهها، فليست كل بضاعة تنتمي لدولة غير مسلمة يجب تركها والنكير على من لا يقاطعها.
وكم أدت التعميمات في الأحكام؛ وعدم فقه الأمور بدقة إلى إشكالات كثيرة، ونتائج عكسية.
فليس- مثلا- كل كافر عدوا محاربا، فهناك المسالم والمعاهد والذمي، وهم درجات؛ والله جل شأنه يقول
لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون)
فدولة محاربة للمسلمين كالهند وإسرائيل لا يمكن التعامل معها بنفس التعامل مع دولة لم تدخل في عداوات أو نزاعات مع المسلين كالبرازيل ونيوزيلندا؛ مثلا.
ودولة داعمة لأعداء المسلمين؛ وتكيد للمسلمين جهارا وخفية مثل الولايات المتحدة الأمريكية لا يمكن جعلها في درجة واحدة مع دولة تتحمس لبعض قضايا المسلمين؛ وتصوت معهم في المحافل مثل كوبا؛ مثلا.
وموقف بلجيكا الشعبي والقضائي من محاكمة رؤوس اليهود وفتح ملفات قضايا في محاكمهم؛ نقيض تماما مع الموقف الألماني الخاضع لسيف معاداة السامية.
كما أن موقف فرنسا المشين من المسلمات المحجبات لا يمكن بحال مقارنته بالموقف البريطاني العادل في هذه القضية.
ومن هذا المنطلق ينبغي علينا- في موضوع المقاطعة الاقتصادية- ملاحظة عدة مسائل؛ وبحسب مجموعة من العوامل، حتى نتدرج في هذا الموضوع المتين ونحسن التعامل معه، ومن تلك العوامل:
أولاً: المقاطعة بحسب أهمية السلعة من عدمها:
ومعلوم أن السلع درجات ثلاث: ضروريات لا تستقيم الحياة إلا بها ولا يمكن الاستغناء عنها، وحاجيات مهمة لاستقامة العيش ويمكن الاستغناء عنها، وكماليات تحسينية للحياة.
فالمقاطعة في شأن السلع من النوع الثالث آكد وأشد من سلع الدرجة الثانية، أما المقاطعة في السلع الضرورية التي ليس لها بديل فقد تصل إلى درجة الحرمة.
المقاطعة بحسب انتماء الشركة، وسياستها المعينة تجاه المسلمين:
وهذه لها درجات أيضا:
1-ففي الدرجة الاولى الشركات اليهودية داخل إسرائيل، وكذلك الشركات خارج إسرائيل التي تخصص نسبة من الأرباح للمشروع الصهيوني أو للدولة اليهودية، أو الداعمة لبعض سياسات إسرائيل ضد المسلمين (مثل برجر كنج في فتحها فروعا في مستوطنات يهودية في الأراضي العربية )، وكذلك الشركات الداعمة للجيوش المحاربة للمسلمين في عمليات موجهة بوضوح ضد بلاد إسلامية، كالشركات الداعمة للولايات المتحدة في حربها ضد العراق وأفغانستان، وكذلك الداعمة للجيش الهندي في حربه ضد الكشميريين وغيرها.
2-وفي درجة ثانية كذلك غيرها من الشركات الأخرى الموجودة في بلاد تحارب المسلين بوضوح مثل أمريكا والهند وبريطانيا، لأن حكوماتها تستفيد بشكل كبير من ضرائبها لدعم أعمالها ومنها العمل العسكري.
ثالثا:المقاطعة بحسب توفير البديل من عدمة:-
1-أعلاها مقاطعة تلك السلع التي لهابديل بقاربها في الجودة أو يفوقها مثل السيارات الأمريكية التي يوجد من السيارات الأوربية واليابانية ما ينافسها، وكذلك الأجهزة الميكانيكية والكهربائية.
2-ثم المقاطعة في السلع التي لها بديل ولكنه أقل منها في الجودة مثل بعض الأدوية والعقاقير، ومستحضرات التنظيف الشخصي والمنزلي.
3-وهناك مقاطعة غير ممكنة للكثيرين، وهي في ما لابديل عنه مثل برامج الكمبيوتر الأمريكية.
رابعا:المقاطعة بحسب الضرر المترتب على المسلمين:-
1-أوجبها مقاطعة السلع المصنوعة في تلك البلاد والموردة إلى بلاد المسلمين، وليس للمسلمين استفادة منها، ويزيد الوجوب في صورتين:-
1/البضائع المهربة إلى داخل حدود بلاد المسلمين ولم يستفد منها الدخل القومي جمارك أو ضرائب أو سواها.
ب/السلع التي موردوها داخل البلد المسلم من غير المسلمين أيضا، فالعاملون هناك غير مسلمين والموزعون هنا مثلهم،فيقل الضرر جدا على المسلمين في هذه الصورة ويزيد وجوب المقاطعة.
2-السلع التي لها وكالات أو منشآت أوفر وع يستفيد منها كثير من المواطنين والعمال المسلمين داخل بلادهم أو خارجها، وتقل فرضية المقاطعة كلما كان عدد المسلمين المتضررين أكبر، وكان ضررهم آكد، صحيح أن تضرر الشركة أو الدولة الكافرة أعظم ولكن ضرر إخواننا المسلمين منها لايمكن تجاهله.
فمصنع غربي للأدوات الرياضية في إندونيسيا يعمل فيه أكثر من عشرين ألف عامل معظمهم مسلم؛ من العسير جدا الدعوة إلى مقاطعة منتجاته المصنعة هناك، كما أن الوضع يزداد صعوبة في البلاد المسلمة التي تعاني من البطالة وقلة فرص العمل والفساد الاقتصادي.
وختاما فالمقاطعة الاقتصادية باب من أبواب الجهاد؛ تحتاج- كغيرها من الأبواب- فقها ودراية بما يقدم علية الإنسان لئلا يكون ضره أكبر من نفعه.