تلوح للمرء خطوط عريضة ترسم أمامه ملامح المستقبل، وتكشف له شيئاً من أحوالها، وتنذره بهويتها القادمة، وتبوح له ببوادرها التي سوف تتشكل له مع توالي الأيام، وإنما تنكشف هذه الخطوط للناظر وبجلاء متى أمعن في المستقبل ونصبه أمام نظريه، وجعله بين كفيه، فأظهر نفسه لنفسه، وأفصح ما في خاطره خاطره، حينها تكون له رؤية ثاقبة، وتنكشف الأمور أمامه، وترتسم خطاه حيالها بأمان وثقة، فيعيش هانئاً قرير العين، مطمئن الحال والبال، لاسيما أنه يسير بخطًا ثابتة واثقة، فهو يرى الطريق أمامه صافياً لا غبش فيه ولا غموض، مستقبله يفرش له أهدابه، ويبدي له اهتمامه؛ حباً فيه وحبوراً.
وهذا معوق متفش ومعضلة ظاهرة، ولو استوقفت أحدهم لتسأله عن تطلّعاته لمستقبله، وعن رسمٍ لأهدافه وتخطيطه لنيل غاياته ومراده، لرأيته وبملْء الفؤاد يتلكأ ويتلعثم، ويتردّد ويبرطم، فلا تحرى من كلامه جواباً ولا شفاءً لما يغلّ في الخاطر، وكثير ممن قبعوا رهينةً للحالة تلك وارتضوا به ولم يرض بهم، وانكفؤوا على واقعهم بتخبط، يهيمون على وجوههم لا يدركون خطاً، ولا يصيبون – رغم حثيثهم – منالاً.
وعلى الرغم من التقدم الذي نعيش زمانه، وانتشار البرامج التعليمية في حياتنا اليومية، وفُشُوّ برامج الإدارة والتخطيط ورسم الأهداف وسبل تحقيقها، حتى بدت كالنبراس المنير في الليل المظلم البهيم، فلا يغفل عنها حريص، ولا يفرّط فيها متابع نهْم، على الرغم من ذلك كله إلاّ أنه لا يزال بين ظهرانينا من لا ينبس ببنت شفة حيال ذلك، ولا يتبرّم في قبوعه في قبره المظلم بين الأحياء، فيعيش في عشوائية مزعجة، ترنو حياته بلحظاتها وأدق تفاصيلها، فلا يسعفه أمام ذلك كله أي وقع وطارئ قد يطرأ عليه، وتصطلي به بقية حياته، وأنّى ذلك وهو مكبَّل في قيود الوهن والكسل مثبطاً نفسه عن أية غاية، مسوّغاً لنفسه إهدار الوسيلة التي تكفل له تحقيق ما يصبو إليه.
كلنا في هذه الحياة نحمل في جعبتنا أهدافاً نأمل في يومٍ تحقيقها، بله وبلوغ الأمل بسرعة نيلها وتحقيقها، وحينما نرسم هذا الطموح في ذهننا، يجب علينا -ولو لبرهة- ألاّ نغفل الوسائل التي تبلّغنا تلك الغاية، وأن نهدر السبل التي توصلنا للمقصد الذي نسعى إليه، وكلما كبر الهدف وتصاعد الطموح تعاظمت الوسائل وبلغت غاياتها القصوى، وما من هدف بدا أمام طامح مصمم مستحيلاً وبعيد المنال، فالقاصي يقرب، والعسير يهون، والذبّ عن الهدف أبلغ ما يكون، فلا يتذبذب في طموحه، ولا يتعثر في مشيته، وتكون خطواته موطئ سلامته.
ومن فداحة الخطأ وكربه أن يتوقف الإنسان في سعيه، فيظن في وصوله لهدفه بلوغ المرام، وانقطاع روضة التفكير والأحلام، بله-والله- لهي البلية والطامة التي لا يدرك بوارَها إلاّ فطنٌ حاذق؛ فالهدف لا يحدّه حدّ، ولا يردّه مدّ، وإلاّ انقطعت الحياة، وما طاق أحد العيش فيها، فكلما بلغ المرء هدفاً رسمه لنفسه وسعى إليه بكل خلجاته وجوارحه، تسامت نفسه، وعلت همته لبلوغ أهداف أخرى وغايات تترى، ولنا في ذلك شخوص ونماذج يعيشون بيننا في هذه الحياة قد أبرقت في أبصارها تحديد الغاية و سمق الهدف وعلوّه، فنجاحاتهم توالت وغاياتهم تسامت، نتنسم منهم تلك الرغبات ونلامس من خلالهم أهدافنا وأحلامنا، وحينما يتوقف المرء عند هدف ارتضاه لنفسه فهو إيذان بانقطاع الحياة من دبيب نفسه، وإيداع نفسه في هامش الأمور، ولهذا كان من أسمى الأهداف وأنبلها في حياة المسلم تحقيق العبودية للباري سبحانه وتعالى؛ لبلوغ رضاه ومحبته والفوز برياضه وجنته، ليمضي في خطا هذا البيان البديع من لسان المصطفى الشفيع صلى الله عليه وسلم: "اعمَلْ عمَلَ امرئٍ يَظُنُّ أن لن يَموتَ أبَدًا، واحْذَرْ حَذَرَ امْرِئٍ يَخشَى أن يَموتَ غَدًا".
فرؤية الهدف لا يحول دونه حائل متى ما حدّده ونصبه بين عينيه؛ فيجد النفس منساقة له بروية وتؤدة حتى تبلغه، وتطمح لما بعده لتحرزه، لاسيما أن هذا السمو في الرؤية يكرس الصلاح في المجتمع ويعزز تكاتفه وتعاونه، ولاسيما أن كل هدف لا يخرج عن مقتضاه النافع، ولا يلج في خطوط الحظر والضر، فتنجلي الرؤية، ويشيع السكون في قلب المرء وروحه.
كتبه احمد العبد القادر