PLCMan Admin
عدد الرسائل : 12366 العمر : 55 العمل/الترفيه : Maintenance manager تاريخ التسجيل : 02/03/2008
| موضوع: أصول الاستدلال الثلاثاء 7 أبريل 2009 - 15:03 | |
| أصول الاستدلال
حامد الحامد أصول الفقه لا يخرّج فقيهاً، وإنما يخرّج متحدثاً رسمياً باسم المذهب؛ فهو يستطيع أن يعلل لماذا قال المذهب بالوجوب في هذه المسألة، ولكنه لا يستطيع أن يحدثنا عن حكم هذه المسألة حتى يكون ملماً بالشريعة الإسلامية وخطابها ومقاصدها في الجملة.
ومثل هذا كعلم العروض للشاعر؛ فالعروض لا يخرِّج شاعراً وإنما يخرِّج ناظماً يعرف أوزان الشعر، ويعلم من أي بحر هذا الشعر، وما هي تفعيلاته، وما دخله من زحاف وغير ذلك، وإنما يكون المرء شاعراً إذا عرف شعر العرب ودرسه وألَمّ به، والبارودي رائد الشعر العربي المعاصر الذي أخرجه من غثاء المحسنات الشكلية إلى لوحات فنية تطرب السمع، وتحرك أشجان القلب، لم يدرس علم العروض، وما كان متقناً لعلوم الآلة -كما يسمونها-.
وكذلك علم البلاغة لا يخرّج أديباً، وإنما يخرّج الأديبَ كتبُ الأدباء وثقافتهم، وأما البلاغة -بمفهومها الذي نتدارسه- فإن الشخص إذا درسها دون إلمام بالثقافة الأدبية قد يكون ثقيلاً على السمع، شديداً على اللسان، كما حصل في عصور الانحطاط، وقد كان الأديب محمد كرد علي رائداً رائعاً في فنه، ولم يكن متقناً لعلوم الآلة، ولمّا درسها في الجامعة ظهر ضعفه.
نعم..علم البلاغة وأصول الفقه والعروض ونحوها تساعد الملكة، وتنمي الموهبة، وتقرّب للطلاب طريقة فهم العلم، ولكن ما فائدة تعلّم المرء لقيادة السيارة وهو لم يُمسك بالمقود؟!
وإذا أمسك المرء بالمقود فربما أصبح ماهراً في القيادة دون أن يحتاج إلى دراسة نظرية لفن القيادة، وسيقود السيارة بموهبته دون أن يستحضر طريقة قيادته للسيارة.
ومثل هذا أيضاً دراسة مصطلح الحديث؛ فالدراسة النظرية لا تكفي، ولا يستطيع المرء تخريج الأحاديث بها، بينما يستطيع من أدمن النظر في كتب التخريج والعلل وطالع أقوال الأئمة في الحكم على الأحاديث أن يحكم عليها، ولو لم تكن تلك الدراسة النظرية حاضرة في ذهنه.
والمحدثون الأولون -رحمهم الله- كانوا يسمون ما يعجزون عن التعبير عنه من أحكام يطلقونها في الأحاديث المروية بالإلهام، وذلك لأنهم قد استوعبوا تلك الأحاديث حتى أصبحت عندهم ملكة يميزون فيها بين الصحيح والضعيف، وهي ما يسميها بعض الأصوليين بالاستحسان.
والمقصود أن نعلم أنه لا بد من استحسان الفقهاء لنفسر به الخطاب الشرعي، كما أنه لا بد من ذوق أو فن الأدباء لنصوغ أساليبنا النثرية والشعرية ولنـزيح عن أبصارنا غشاوة القوانين البلاغية، ولتتجلى لأبصارنا حلاوة الخطابات الأدبية، وكذلك عن طريق إلهام المحدثين نعرف الصحيح والضعيف من الأحاديث، لا أن نعتمد على المعادلات الرياضية، فنجعل من ثقة مع ثقة يساوي حديثاً صحيحاً.
وليس استحسان الفقهاء هو ذلك الباب الذي تدرسه في علم أصول الفقه، وإنما هو نحو ما يجيب به العالم عندما يُسأل عن مسألة، ولا يهتدي لدليلها أو تتشابه عليه الأقوال فيقول: (والذي يطمئن إليه قلبي، والذي يظهر لي) ونحو ذلك من العبارات، وبمثل هذا الاستحسان رد الإمام مالك -رحمه الله- حديث: (البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا)، مع أنه رواه عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً.
ومَثَل الشريعة في خطابها كمثل شخص اتخذته رفيقاً في طريق، فبداية تتسع مواطن الارتياب في كل أسلوب وخطاب، وبعد طول صحبة ودوام خلطة تستطيع أن تفسر مدلول إشارته، وتعلم رموز نظرته.
وربما تسيء فهم ألفاظه وتصرفاته بادئ الأمر، ولكنك بعد طول الصحبة ستفهمه بإيماءاته وإشاراته؛ بناء على ما استوعبته من قواعد كلية في مدلولاته.
يقول ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (7/115): (إذا عُرِف المتكلم فُهِم من معنى كلامه ما لا يفهم إذا لم يعرف؛ لأنه بذلك يُعرف عادته في خطابه، واللفظ إنما يدل إذا عُرف لغة المتكلم التي بها يتكلم وهي عادته وعرفه التي يعتادها في خطابه، ودلالة اللفظ على المعنى دلالة قصدية إرادية اختيارية؛ فالمتكلم يريد دلالة اللفظ على المعنى، فإذا اعتاد أن يعبر باللفظ عن المعنى كانت تلك لغته، ولهذا كل من كان له عناية بألفاظ الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومراده بها عرف عادته في خطابه، وتبين له من مراده ما لا يتبين لغيره...ولا يجوز أن يحمل كلامه على عادات حدثت بعده في الخطاب لم تكن معروفة في خطابه وخطاب أصحابه).
وقد قرر الشاطبي -رحمه الله- في موافقاته (2/131): (أنه لا بد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين)، وضرب أمثلة على ذلك، وقال (2/139): (المعنى الإفرادي قد لا يُعبأ به إذا كان المعنى التركيبي مفهوماً دونه) وقال أيضاً في كلام جميل جليل (3/419): (فالأوامر والنواهي من جهة اللفظ على تساوٍ في دلالة الاقتضاء، والتفرقة بين ما هو منها أمر وجوب أو ندب، وما هو نهي تحريم أو كراهة لا تعلم من النصوص، وإن عُلم منها بعض فالأكثر منها غير معلوم، وما حصل لنا الفرق بينها إلاّ باتّباع المعاني والنظر إلى المصالح، وفي أي مرتبة تقع وبالاستقراء المعنوي، ولم نستند فيه لمجرد الصيغة، وإلاّ لزم في الأمر أن لا يكون في الشريعة إلاّ على قسم واحد، لا على أقسام متعددة، والنهي كذلك أيضاً، بل نقول: كلام العرب على الإطلاق لا بد فيه من اعتبار معنى المساق في دلالة الصيغ، وإلاّ صار ضحكة وهزءة).
وعوداً على بدء.. فالأصولي الذي يرى أن الأمر يقتضي الوجوب والنهي يقتضي التحريم كيف يحكم في قوله صلى الله عليه وسلم: (أحفوا الشوارب) مع أن ابن دقيق العيد -رحمه الله-نقل الإجماع على استحبابه -وقد خالف ابن حزم رحمه الله-، وأين القرينة الصارفة؟
وما الصارف عن التحريم في قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا سجد أحدكم فليعتدل ولا يفترش ذراعيه افتراش الكلب)، وقد كرهه أهل العلم كما قال الترمذي وابن قدامة رحمهما الله.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم فاشتد قوله في ذلك حتى قال: لينتهُنّ عن ذلك أو لتُخطفَنّ أبصارهم)، وقد نقل ابن قدامة وابن رجب -رحمهما الله- كراهة ذلك دون تحريمه.
وغير ذلك كثير، لا نستطيع أن نعرف الأحكام الشرعية فيها إلاّ إذا عرفنا خطاب الشارع؛ وذلك عن طريق الاستقراء للنصوص الشرعية وجمع شواردها وفهمها على لغة العرب لا على لغة اليونان! _________________ أبـوروان | |
|