تابع
الأدلة على أن الإسلام وحده هو طريق الرب: والأدلة السابقة جميعها يمكن لعاقل أن يتوصل إليها بعقله وفطرته وبيان ذلك أنه لا يمكن لعاقل أن يدفع أو يماري في أنه مخلوق صغير في كون كبير، وأن هذا الكون في غاية الاحكام والإبداع، وأن كل جزء من هذا الكون مرتبط بغيره ارتباطا وثيقا وأنه لا بد وأن يكون لهذا الكون صانع عظيم عليم قوي قاهر.. وأنه لا بد وأن يكون حكيما ويستحيل أن يكون قد خلق خلقه بغير هدف ولا غاية، وأنه لا بد وأن يكون هناك جزاء في نهاية المطاف، وأن يقام حكم يقتص فيه للمظلوم من الظالـم، ويلقى المحسن والمسيء كل جزاءه، لأنه لو لم يكن كذلك لكان الظالم القاهر الباغي العابث المفسد لهواه هو العاقل في هذه الحياة، ولكان التقى البار العفيف الذي يؤدي الحقوق ويمتنع عن الحرام هو الغبي الجاهل... فما دام أنه لا توجد حياة بعد الموت وحكومة في الآخرة، ولا يجازي أحد بما عمل فإنه يكون من السذاجة والجهل الانصراف عن الملاذ، وتحقيق الشهوات وحيازة الخيرات، والعب من كأس الحياة حتى الثمالة، والاستمتاع بمباهج الحياة إلى النهاية، ولو أدى ذلك إلى ظلم العباد ونشر الفساد.
وعلى هذا الأساس يكون الذي خلق هذه الحياة، ونصب هذه السموات،ووضع هذه الأرض، وخلق الإنسـان يخلف جيل منه آخر، قد خلق خلقه عبثا ولعبا، وظلما ونكدا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [سورة ص: 28].
وقال تعالى:
{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} [سورة القلم: 35-36] وهذه الحقائق حقائق عقلية فطرية لا يحـتاج الناس فيها إلى الوحي لمعرفتها لأنها من الضرورات العقلية، ولكن لأن الأبصار تعمى، والفطـرة تنطمس بالتعليم المنحرف ولذلك أرسل الله الرسل من أجل بيانها والتذكير بها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»..
وهنا نصل إلى السؤال الآتي؟ وما الدليل على أن خالق هذا الكون سبحانه وتعالى قد اختار رسلاً بأعيانهم، وبعبارة أخرى ماذا يدلنا أن هذا الذي يدعي الرسالة هو رسول الله حقا وصدقا.
والجواب: من حيث دلالة العقل فإنه لا بد لخالق هذا الكون أن يعرف مخلوقاته بذاته العلية، وأن يخبرهم عن نفسه جل وعلا ولماذا خلقهم؟ وفيم أقامهم؟ لأنه سبحانه وتعالى لو لم يفعل ذلك لكان هؤلاء الخلق في عماية عن حقيقة أمرهم، وأصل منشئهم، وصفة خالقهم؟ وماذا يريد من إيجادهم؟ لأن هذا الكون من الاتساع والشمول بحيث لا تحيط به أبصارهم ولا تصل إلى نهايته أقدامهم ومراكبهم؟ وهو كذلك من الدقة والأحكام وخفاء الأسرار بما لا يستطيعون إدراك كنهه. هذا مع قصر أعمارهم، وقلة علومهم، والبشر مع تراكم علومهم جيلا بعد جيل لم يكتشفوا كثيرا من القوي المذخورة في الكون إلا قريبا، فلم يعرفوا الكهرباء مثلا إلا مؤخرا، ولليوم لا يعرفون حقيقة الذرات التي بنى منها الكـون، ولا يعرفون دقائق الخلق في أنفسهم فما زال جسم الإنسان نفسه في كثير من أحواله ووظائفه ودقائقه مجهولا مع تقدم آلات الإنسان ووسائله وعلومه، وما زال سر الحياة في الإنسان وهو روحه لا يعلم الإنسان عنها إلا قليلا:
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [سورة الإسراء: 85].
وهناك عوالـم كثيرة خفية تتحكم في حياة الإنسان نفعا وضرا وهو لا يستطيع أن يراها ولا أن يحيط علما بها، فإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يعرف حقيقة ما يحسه ويراه، فأنى له أن يعرف ما غاب عنه، ولا سبيل له للوصول إليه؟
ومن أجل ذلك فإن الله سبحانه وتعالى قد تكفل بأن يعلم الإنسان منذ آدم لماذا خلقه، والمهمة المناطة به، ويعلمه بدايته ونهايته، والعوالم المحيطة به، وما الذي عليه أن يأخذه، وما الذي عليه أن يدعه؟ قال تعالى:
{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا} [سورة البقرة: من الآية 31].
وقال تعالى:
{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ} [سورة البقرة: 35].
ولما عصى آدم ربه وأكل من الشجرة أهبطه الله إلى الأرض وعلمه مهمته فيها. قال سبحانه وتعالى:
{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)} [سورة طه:123-127].
الرسالات هي طريق الله لهداية الإنس والجن: وقد اختار الله أن يكون تعليمه للإنسان بطريق الوحي إلى رجال يختارهم الله في كل أمة ليكونـوا واسطة بين الله وخلقه ولو أراد الله غير هذا الطريق لفعل فإن الله لا يعجزه شيء كأن يهدى الإنسان بلا واسطة قال تعالى:
{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [سورة السجدة: من الآية 13].
وقد أقام الله عجماوات من الحيوانات والحشرات والمخلوقات فيما خلقها له بهداية منه وتوفيق، فهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى قال تعالى:
{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [سورة النحل: 68].
ولكن الله سبحانه وتعالى شـاء في عالم الإنس والجن أن يختار في كل قبيل منهم رسولا يرسله إلى جماعته داعيا لهم ومبيناً لهم طريق الرب سبحانه وتعالى.
وعلى كل حال فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي له الخيرة وحده وليس لعبيده ولا خلقه القاصرين الضعفاء أن يقترحوا عليه الطريقة التي يعلم بها عباده
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة القصص: 68].
المعاندون يقترحون رؤية الله والملائكة عيانا ليؤمنوا: واختيار الله لإرسال الرسل طريقة لإعلام عباده كان دائماً مثار استنكار ورد واعتراض من الكفار والمعاندين. فإنـهم قالوا لماذا لا يأتينا الله بنفسه لنراه ويكلمنا بما يريد؟ وقال بعضهم لماذا لا يرسل الله لنا ملائكته عيانا لنراهم ويخبروننا بمراد الرب؟ ولماذا يختار الله واحدا منا فيرفعه هذه الرفعة العظيمة، ويشرفه علينا، ونحن مثله. قال تعالى:
{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} [سورة الفرقان: 21]، وقال تعالى عن تعنت الكفار وطلبهم مقابلة الرب نفسه حتى يصدقوا ويؤمنوا:
{وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً (92)} [سورة الإسراء: 90-92].
ومعنى قبيلا أي في مقابلتنا وجهـا لوجه.. وقال تعالى عن قوم نوح في ردهم الإيمان بالله وعبادته وحده:
{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [سورة المؤمنون: 24].
وعن آخـرين أنهم قالوا لرسولهم:
{وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ (34)} [سورة المؤمنون: 33-34].
والخلاصة أنّ الكفار في كل أمة اعترضوا بمثل هذه الاعتراضات على اختيار الرب سبحانه وتعالى أن يرسل رسلا من البشر إلى الناس ليعلموهم ويرشدوهم إلى طريق الرب، والحال أنه ليس للإنسان المخلوق أن يعترض على اختيار الرب سبحانه وتعالى ولكنه الكفر والعقوق والجحود، وكان الواجب على الإنسان أن يبحث فقط في دليل من يدعي أنه رسول من الله خالـق الكون، وهل هو صادق فيما قاله أم لا؟ وهذا ما يحتمه ضرورة العقل الصحيح أن ينظـر فيما يدعيه من يدعي أنه رسول الله هل هو صادق فيما يقول أم لا؟ وذلك أنه من السهل على كل أحد أن يدعي هذه الدعوى؟ ولو كان كل من ادعاها صدقه الناس واتبعوه واستجابوا لأمره، لاختلط شأن الصادق بالكاذب، ولو لم يمكـن التفريق بين الصادق في دعوى النبوة والكذاب لكان هذا من أعظم الفساد والشر لأنه حينئذ ينطمس طريق الرب، ويختلط صراطه مع غيره من طرق الشر والغوايـة، ولا يعلم على الحقيقة ما يريده الرب جل وعلا مما يدعيه الكذابون الذين يتخذون دعوى الرسالة طريقا إلى شهواتهم وملذاتهم وتسخيرهم الناس فيما يريدون.
ومن أجـل ذلك كان حقا على الله سبحانه وتعالى أن يؤيد الصادق بالمعجزات الدالة على صدقـه وأنه رسوله حقا، وأن يكذب الكاذب ويفضحه في الدنيا بما يبين لكل ذي عقل أنه كذاب فيما ادعاه، ولو لم يفعل الرب ذلك لاختلط شأن الرسل على الناس ولم يستطيعوا أن يميزوا بين الصادق في دعوى الرسالة والكذاب وهنا ينطمس طريق الله ولا يعرف الناس مراده والطريق إلى محبته رضوانه، وكيف يحذرون سخطه وعقابه.
ومن أجـل ذلك فإنه ما من رسول أرسله الله سبحانه وتعالى إلى الناس إلا وأتى بما يثبت صدقه في دعواه، ويقطع حجة المخالفين له، ولا يترك لمبطل دليلا إلا دحضه، ولا حجة إلا أبطلها، قال تعـالى:
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)} [سورة الأنبياء: 16-19].
وما من رسول أرسله الله إلا وهو يخبر الناس بمن سبقه ويعلمهم بمن سيأتي بعده من أعلام الرسل والأنبياء لتكون السلسلة معلومة عند كل مؤمن، ولا يدخل فيها الغريب والشاذ والكذاب.
وكـان آخر الرسل العظام موسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وما من أحد منهم إلا كان معلما بمن سبقه من لدن آدم، ومخبرا بمن بعده، وسيأتي إن شاء الله تفصيل كامل لبشارات موسى وعيسى بمحمد صلى الله عليه وسلم.
لم يوجد رجل في الأرض كلها منذ خلقها الله وإلى يومنا أحبه الناس واتبعوه في تفاصيل حياته ودقائق تصرفاته وأعماله كمحمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم.
وكان خاتم الأنبياء والمرسلين هو محمد بن عبدالله الهاشمي القرشي من نسل إسماعيل وإبراهيم عليهـما السلام، وقد كان لهذا الرسول صلى الله عليه وسلم من الشأن والرفعة، وبلوغ الدعوة وقوة التأثير في الأرض، وكثرة الاتباع والانصار، ما لم يكن لنبي ولا رسول قبله، وقام من أدلة إثبات نبوته ورسالته من الآيات والأدلة والمعجزات ما لم يتحقق لأحد مثله، ولا ينكر مثله إلا مطموس القلب جاهل كافر أو حاسد حاقد.
ولم يكن في أمة من أمم الهداية السابقة من قبله من يكون في أمته من المهتدين والمجاهدين والعلـماء العاملين، والعباد، والزهاد ولم تجرد سيوف في الحق ما جردت سيوفه، ولم يأرز الإيمان إلى قرية في العالم قط ما أزر إلى المدينة التي كانت دار هجرته، ولم تعمر مدينة في التاريخ قط بالعباد الصالحين الذين يأرزون إليها ويفدون إليها من كل فج في العالم فيطوفون ويسعون ويعتكفون، ويصلون، ويذكرون الله بأصوات مرتفعة بالتكبير والتهليل والتلبية ما عمرت أم القرى التي ولد فيها، وابتدأ فيها دعوته ورسالته، ولا حفظ كتاب في الأرض كلها منذ وجدت الأرض ما حفـظ الكتاب الذي جاء به من الله فهو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم يقرأونه آنـاء الليل وأطراف النهار على مر العصور والدهور، ومنهم من يقرأ الكتاب كله وهو نحو ستمائه صفحة في كل يوم طيلة حياته، ومنهم من يقوم به بالليل على قدميه كل ثلاث ليال ويفعل هذا عشرات بل مئات الألوف ممن لا يحصى عددهم إلا الله في كل عصر من عصور الإسلام.
ولا يوجـد رجل في الأرض أحبه الناس من أهل الإيمان كما أحب الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا رجـل ذكروا اسمه كما ذكروه ودعوا له وصلوا عليه كما صلوا عليه، ولا يكاد يوجد مكان في الأرض على مدار الساعة إلا ويرتفع فيه صوت المؤذن باسمه مع اسم الله تعالى ((أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد رسول الله)).
ولم يوجـد رجل قط يتتبع الناس تفاصيل حياته فيأكلون كما يأكل، ويحبون من الطعام والشراب واللباس ما كان يطعم ويشرب ويلبس، وينامون كما كان ينام، ويقولون الأذكار التي كان يقولها عندما يركب ويأكل ويشرب وينام، ويشاهد الهلال والفاكهة الجديدة، ويدخل الخلاء، ويخرج منه، ويأتي أهله، ويحيي من يلقاه كما يفعل أهل الإيمان اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعا في كل تفاصيل حياته. هذا فضلا عن اتباعه في عبادته في صلاته وصومه، وحجه وجهاده، فإن أهل الإيمان يبحثون ويتتبعون أدق أعماله في الصلاة كيف كان يقف، وكيف كان يركـع وكيف كان يسجد، وكيف يجلس بين السجدتين، وكيف يتشهد، وكيف يحرك أصبعه في الشهادة.
ويبحثون في تفاصيل حجـه ويتبعونه في ذلك، ويجعلون ذلك نسكا ودينا وشرعا فيتعلمون كيف رمل في السعي؟! وكيف اضطبع في الطواف؟ وأين وقف عندما شرب من زمزم؟!
وسطوع نـور الإسلام في الأرض، وظهور الحجة به على العباد أعظم، وأكبر من سطوع الشمس للعالمين، ولكن عمى البصائر ينكرون، ويجحدون.
إيمان المقلد يقع باطلا: ولما كان الإيمان لا يصح إلا بدليل، فالمقلد لآبائه وقومه الذي لم يتحقق في قلبه أن الإسلام حق، وما عداه باطل لا يكون مؤمنا، فإنني أحببت أن أسرد بعض أدلة الإيمان لتكون تثبيتا للذين آمنوا وزيادة في إيمانهم فإن الإيمان يقوى ويزيد بتضافر الأدلة، ويتجدد بتجدد ورودها إلى القلب، وجـدة ما يسمع منها
{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ (125)} [سورة التوبة: 124-125] وكذلك لتكون بابا وطريقا ممن لمن لم يذوقوا للإيمان طعما أن يجدوا الطريق إليه.
معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم هو المدخل إلى الإيمان:
الإيمـان بالرسول هو المدخل إلى الإيمان كله لأن الرسول هو الدال على الله والمخبر به، والهادي إلى طريق الله وصراطه.
ودلالة العقل والفطرة على الإيمان تقف عند حدود اليقين بوجود الله وعلمه وقدرته، ورحمته بعباده ثم يقف العقل عند ذلك فلا سبيل إلى العلم بمراد الله في الخلق وحكمته من إيجادهم، وماذا يكون بعـد الموت؟ ولا سبيل للعقل ليعرف جنة أو نارا، أو ملائكة أو يدرك بدايات الخلق ونهاياته، وكل ذلك لا يدرك إلا عن طريق الرسول ومن أجل ذلك كان الإيمان بالرسول هو الباب والمدخل إلى الإيمان.
الأدلة على أن محمدا بن عبدالله هو رسول الله حقا وصدقا: هذه بعض الأدلة على أن محمدا بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه هو رسول الله حقا وصدقا، ونسردها أولا على وجه الإجمال ثم نأتي إلى تفصيلها وبيانها:
1)- المعجزة الكبرى التي تحدى الله بها المعاندين المكذبين للرسول وجعلها معجزة باقية إلى يوم القيامة وهو القرآن الكريم.
2)- خوارق العادات التي أجراها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم مما لا يحصى كثرة.
3)- أخبـار الماضين مما لم يطلع عليها الرسول الأمي الذي لم يقرأ كتابا واتيانه على النحو الدقيق كما هي عند أهلها ونقلتها.
4)- الأخبار المستقبلية التي جاءت وتحققت كما أخبر بها تماما.
5)- السيرة الشخصية للنبي الكريم التي تدل دلالة قاطعة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الصدق والإيمان وأن مثله يستحيل عليه الكذب أو أن يدعي أو يقول غير الحق.
6)- متانـة الدين والتشريع الذي جاء به وبناؤه على الحكمة والعلم مما يستحيل صدوره من أمي لم يقرأ ولم يكتب.
7)- كمال الوصف للإله الحق خالق السموات والأرض الذي يستحيل للبشر وحدهم تصوره ولا يمكن أن يكون هذا إلا وحيا.
- أخبار الرسول عن كثير من حقائق الموجودات والنبات، وخواص الأشياء في السموات والأرض والإنسان والحيوان مما لم يكن مثله معلوما قط وقت الرسالة، والتي لم يطلـع البشر عليه إلا بعد تراكم علوم هائلة، واكتشاف أدوات دقيقة، ومرور مئات من السنين.
9)- شهادة الشهود بصدقه وأمانته وأول ذلك:
وأول شاهد هو الله سبحانه وتعالى الذي شهد بأن محمدا بن عبدالله هو رسوله حقا وصدقا، وكانت شهادته سبحانه بالقول المنزل، وبأفعاله العظيمة التي أيده فيها كما نصره في بدر، وجعل هذا النصر مع قلة عدد المؤمنين وضعفهم وذلهم فرقانا بين الحق والباطل. قال تعالى:
{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ} [سورة آل عمران: 13[،، وجعل سبحانه ذلك دليلا على صدق رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك شهادة الملائكة الذين أخبر الله بشهادتهم، والذين نصروه في معاركه وشاهدهم الكفار عيانا بيانا. وشهادة أولو العلم وخلاصة البشر في كل جيل ممن يرفعون أيديهم إلى السماء كل وقت وحين نشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمدا عبده ورسوله.
وشهادة أهل الذكر من اليهود والنصارى الذين دمعت أعينهم لما اطلعوا على صدقه وحقيقة حاله، ومسارعتهم إلى الإيمان به، وهذا في كل جيل وقرن من الناس منذ بعث رسول الله وإلى يومنا هذا.
وشهادة العجماوات من الحيوانات والجمادات من النباتات والأحجار، وكل هذا قد كان بأفصح عبارة وأوضح إشارة.
وتحت هذه الكليات من الأدلة تفصيلات كثيرة يخشع عند ذكرها القلب، وتدمع لها العين، ويهتف بها اللسان ((أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله)).